حافظت الأرياف التونسية على تقاليدها الجهوية خاصة في التغذية أكثر من الحواضر ومن الساحلية منها بالخصوص المعرضة أكثر من الداخلية للتأثيرات الأجنبية عبر حوادث التاريخ، في علاقة الطعام بالزراعة والمستوى الاجتماعي والذوق، على أنّ الأطعمة الريفية أميل إلى البساطة عكس الأطباق الحضرية الأميل إلى التعقيد المكلف. دلّت الرماديّات القبصية على استهلاك الإنسان البدائي في منطقة قفصة للحلزون المشوي زيادة على الجني والصيد البرّي والنهري، وذلك إلى أن تغيّر معاشه مذ أصبح مستقرا ومنتجا بالزرع وتدجين الحيوانات وتربية الماشية بدءا من أواسط الألفية التاسعة ق.م. دلّ كتاب ماجون على ازدهار الفلاحة في قرطاج البونية مركزة عل الحبوب والزيتون ثم على الخضر والغلال واللحوم، ودلّ مجسّم الطابونة المكتشف بقرطاج والراجع إلى ق 4ق.م. على نفس طريقة إعداد الخبز إلى يومنا. وكذلك بالنسبة إلى البرغل وشربة الفريك والحساء والبازين حسب كاتون (Caton) ( القرن 3-2 ق.م) حتى نعت الرومان القرطاجيّين بآكلي العصائد ساخرين. كانوا يكثرون من الثوم ويتبّلون بالفلفل الأكحل وغيره ويستعملون الجلجلان كما كانوا يعرفون الحمص والكرنب والقنارية. كما كانوا يطهون السمك طازجا أو مملّحا واللحم دون لحم الخنزير، ويعصرون العنب ويقطعون العسل ويجنون الرمّان واللّوز والتين (الكرموص بالبربرية). وفي العهد الروماني أدّى الازدهار إلى بذخ في الطعام منتظما حسب ثلاث وجبات. فلفطور الصباح الخبز بالجبن والماء، والغداء فواضل الأمس، وللعشاء ما لذّ وطاب طوال السهر في قاعة الأكل المفسفسة على متكآت. وسواء أكانت الوصفة باتينة ( Patina) شبيهة بالطاجين التونسي أو مينوتال (Minutal) أي مرقة سمك ولحم وغلال أو غيرها مع سلطة الخصّ غالبا وكلما توفر فالواجب تغلية اللحم في الماء قبل طبخه والإكثار من التوابل والغلال وإعداد العولة منها ، زيادة على المدخر من الحبوب والخمر والعسل. ثم اندثر كثير من هذا بانهيار الحضارة الرومانية إلى أن جاء الفاتحون العرب بأكلات حرّم فيها لحم الخنزير والخمر وظهرت فيها مكونات أجنبية كالأرزّ والسكّر والسبناخ والباذنجان مثلما ظهرت طريقة تصبير اللحم فيما أصبح يعرف بالقديد. وما أكثر المصنّفات العربية في هذا الموضوع بالتفصيل من المأدبة إلى الأدب حتّى الطبّ وللتونسيين فيها إسهامات، منها «كتاب الأغذية» لإسحاق بن سليمان الإسرائيلي القيرواني (ت 320 ه / 932 م) ترجمه قسطنطين الإفريقي إلى اللاتينية في ق 5ه/11م، واستفادت منه الجامعات الأوروبية إلى ق 11ه /17م. في هذا القرن وثّق ابن أبي دينار في» المؤنس» المقروض و المروزية الفارسية والخبز المبسس. وكان الكسكسي أشهر الأكلات المغاربية من الأندلس إلى المشرق، بالطريقة البربريّة مذ كان الكسكاس من الحلفاء إلى أن صار من الفخار ثمّ من النحاس « المقصدر» فمن الأليمنيوم والإينوكس، وإلى جانبه أكلات أخرى لم تنقرض أمام منافسة الأكلات الأجنبية كالمقرونة التي اتخذت الجنسية الإيطالية والحال أنها صينية انتقلت إلى إيطاليا عبر تونس. ويحفل شهر رمضان بأنواع الخبز والشربة والطاجين والعجة والمشلوش والعدس والبسيسة والمسفوف والمحمصة والملثوث والنواصر والفطائر وبأنواع الحلويات كالمخارق والزلابية وهريسة اللوز. كما تحفل مطاعم الأسواق بالصحلب واللّبلابي والكفتاجي واللحم المشوي والمصلي والدجاج المحمّر والهرقمة. وكم كانت تونس مستفيدة بحكم موقعها الجغرافي من الروافد الحضارية المختلفة ذات الأثر الحميد في المأكولات والحلويات والمشروبات والعطورات وأبرزها الرافد التركي منذ حضور سنان باشا سنة 1574 م، والرافد الأندلسي منذ العهد الحفصي وخاصة منذ الجلاء الموريسكي سنة 1609 م . فمن الأول الشمنكة والكفتة والبوزة والبقلاوة والقطائف. ومن الثاني السفنج والحلالم ومقرونة الأباري والمرقة الحلوة والمرقة الزعراء ( أي بالزعفران) والبناضج والكيسالس وكعك الورقة والبريك الدنّوني ( نسبة إلى ذي النون من ملوك الطوائف بالأندلس) والجبن التستوري والريقوتة كذلك مع المصبرات ومعجون الغلال. وفيها ظهرت منتوجات القارة الجديدة « الأمريكية» كالبطاطا والطماطم والفلفل واللوبياء والقطانية والهندي.وكثيرا ما تدل الأسماء على أصل الطعام أو على أهم مكوناته أو على طريقة إعداده. فالقناويّة من قنا المصرية، والملوخية وأصلها الملكية من مصر الفرعونية، والسفنّارية هي الجزر باليونانية، واللاّقمي والبيثر والصبارص باللاتينية، والدقلة من دجلة بالعراق وفلفل برّ العبيد من البرازيل حيث وظف العبيد الأفارقة، وكذلك القهوة. ولكلّ جهة أكلة مرتبطة بفصل وطقس كالبرزقان في الكاف، كما لكلّ منتوج جهة اشتهرت به، على أنّ المناسبات العامة الفلاحية وخاصة الدينية ، توحّد التونسيين في نفس الأكلة غالبا. وتبقى أكلاتنا التقليدية بنكتها المتوسطية ومختلف تنويعاتها كما يجليها «الصحن التونسي» مجتمعة الأكلة الصحية الصامدة في مواجهة الوجبات السريعة أو المعلبة المستوردة بأثمان باهظة كالبيتزا الإيطالية والفريكاسي والبمبالوني وكذلك الصوشي الصيني وكثير ممّا يقلى في الزيت المحروق ويتناول مع المشروبات الغازية الضارّة. الحمروني (أ): الهجرات الأندلسية ...، ص 143- 149 (أكلات وحلويات وعطورات)؛ وطن الكاف، ص 47-54 ( عيد مايو بالكاف واأكلة البرزقان)؛ الدبّابي العيساوي (سهام): الطعام والشراب في التراث العربي. - كلية الآداب ، منوبة /تونس 2008؛ العنّابي ( خير الدين) : فنّ الطبخ عبر العصور بالبلاد التونسية في: «معالم ومواقع» ، ع 30 ، جانفي 2015، ص 12- 22. (يتبع)