نحاول بهذه الحلقات من أدب الرحلات إمتاع القارئ بالتجوال في العالم رفقة رحّالة وكتّاب شغفوا بالترحال وأبدعوا على اختلاف الأنظار والأساليب في وصف البلدان، سواء انطلقوا من هذا القطر أو من ذاك، مع العلم بأنّ أكثرهم من المغرب الكبير ووجهاتهم حجازيّة لأولويّة مقصد الحجّ وغلبة المشاغل العلميّة والثقافيّة على آثارهم باعتبارهم فقهاء وأدباء، على أنّ الرحلة تكون ممتعة أكثر مع آخرين جالوا في قارات أخرى. وفي هذا المكان شبه المقفر اختارت سلطة الحماية إقامة مراقب مدني للسيطرة على قبائل الجهة المستعصية وبالأخصّ منها أولاد عيّار وأولاد عون . ولهذا الغرض دعي الملازم بورديي (Bordier) السكرتير السابق للجمعيّة الجغرافيّة بمونبليي (Montpellier) ليقيم بالمكان مع عائلته بين الآثار . وطيلة سنتين ليس له من مكتب غير ركن من قوس النصر المقام على شرف الإمبراطور تراجان (Trajan) حماه من الريح برفع جدار . وها هو قد صار مقيما في بناية جميلة قد تكون ذات يوم بمثابة قلعة تحميه في مهمّته لإخضاع تلك القبائل الثائرة ، ولكنّ سلطة المراقب على منظوريه تحول دون تحرّكها وتضمن خضوعها . ويبدو السيّد بورديي سعيدا بوجوده هناك بين تلك الأقوام التي يحميها (!) رغم بعده عن المراكز العمرانيّة الحضريّة ( بدل الأوروبيّة ) بمائتي كيلومتر . فهو بين تلك الأطلال التي يعشقها كعالم الآثار ويقرأ نقائشها العسيرة مستمتعا بأوقات الفراغ المتبقّية بعد أداء وظائفه الإداريّة . وهو أيضا أوّل معمّر بمكثر ، ولا ييأس من تحوّل المكان إلى مركز فرنسي ذات يوم . ولا شكّ أنّ خصب التربة ووفرة الماء وخاصّة لطافة الجوّ صيفا نظرا لرفعة الموقع مثل مناخ وسط فرنسا ، كلّ ذلك سيجلب الفلاّحين – من مزارعين ومربّي ماشية فرنسيين – بمجرّد مدّ طريق تربطه بتونس العاصمة ( ص 13). لم يسمح الوقت لصاحبنا ومن معه بالمزيد من استطلاعاته، فشكرا مضيّفهما وقصدا قرية كسرى (أو كسرة) البربريّة لقضاء الليلة على ارتفاع 950 مترا من جبال الحمادة ، من حيث ينحدر شلاّل قويّ يجري في عدّة مسارب مذكّرا بقرى جبال الألب (Les Alpes) ويتخلّل غابة الزياتين . بأعلى القرية أطلال قلعة بيزنطيّة ، ومن أمام دار « القايد» يمتدّ النظر مستمتعا بأروع المشاهد من الجبال ( ص 14) . وبصعوبة واصل فالّو الجولة في منطقة جبل وسلات غير المعروفة في مسالك الرحّالة لغياب الدليل ساعة الانطلاق . ولكنّه وصاحبه استمدّا الثقة من رفقة حارس الغابات وعون حرس مدني ورسالة من قايد كسرى إلى شيخ المنصورة. مرّ ركبهم بقبور جلموديّة أقلّ أهمّية وبمناظر نادرة الروعة ، و لكنّ المفاجأة كانت في انتظارهم في قرية المنصورة حيث باءت بالفشل جميع محاولاتهم للحصول على دليل كأنّ الرجال توجّسوا خيفة من هؤلاء الغرباء فأغلقوا الأبواب دونهم ممّا اضطرّ بعض النساء إلى الكذب بادّعاء أنّ أزواجهنّ متغيّبون . غير أنّ شيخا، لا يعرف الجبل، اكتفى بإيصالهم إلى « قايد» الكعوب والقوازين المخيّم غير بعيد ( ص 15). ترك فالّو وصحبه دشرة المنصورة غير المضيافة – في نظره – خلفهم متجاوزين الجبل عبر مسلك ضيّق تكاد ترسمه الصخور المزلقة ومتعجّبين من عدم انزلاق دوابّهم فيه . ولكن ، للأسف ، لم يسمح ضيق الوقت له بزيارة قرية بربريّة غير بعيدة، اسمها جنوة (Jenoua) أكّد له سكّانها أنّهم أحفاد لمسيحيين قدامى اعتنقوا الإسلام ، وكأنّه وجد في الأمر مبرّرا لحركة تبشيريّة مرافقة لاستعمار تونس تعيد الأخلاف إلى دين الأسلاف ( ص 15) . كان مخيّم « القايد» أبعد ممّا وصف لهم ، وكان وصولهم متأخّرا ، بعد الظهر وبعد اختراق سهل شاسع أجرد أحرقته شمس رمضاء . وكانت سلطته تشمل الكعوب والقوازين الذين تجمعهم قبيلة جلاص الكبيرة بين قبائل البدو . وقد حرص على جعلهم ينسون سوء الاستقبال الذي كان لهم صباحا في المنصورة ، واستأنفوا السير مهتدين هذه المرّة بدليل من تلك الناحية . ولكن دون العثور فيها على أيّ أثر سكنيّ يذكر عدا بعض الرعاة البؤساء ( ص 15 – 16) . قرّروا نصب خيمتهم وإراحة دوابّهم حذو «عين بركة» المظلّلة بدفلى ورديّة ، وتحت مجموعة أشجار زياتين برّية مسنّة ، و شرعوا في إعداد عشاء من شواء خروف اشتروه بفرنكين سرّ بهما مالكه لأنّه ثمن أكبر ممّا يستحقّ . ولم ينس فالّو أن يذكر أنّ مثل هذا الطعام المفضّل لدى العرب كاد يتسبّب في وفاة مبكّرة للنبيّ (ص) حسب ما روي في سيرته . واستعرض بالمناسبة ظروف زواجه من صفيّة لجمالها بعد أن دسّت له ولصحابته السمّ في الدسم انتقاما لزوجها الثريّ الذي قتلوه فماتوا وسلم رسول الله بمعجزة ( ص 16). وبنفس السخرية والاحتقار تكرّم فالّو وصاحبه المرسيليّ بفضلة الشواء على مرافقيهما بعد أن شبعا ، في مثل هذه الوليمة النادرة ( ص 16) وانطلق في وصف الطبيعة بصور شعريّة تعبّر عن إعجابه بمشهد النار الموقدة وألسنتها المتألّقة والأشجار وأخيلتها المتحرّكة والنجوم المتلألئة ووجوه المرافقين السمراء المضاءة ، فإذا هو يتذكّر و يستعذب مطالعات الصّبا من قصص المغامرات ( ص 16 – 17) . ومع طلوع الفجر شدّوا أحزمتهم لاختراق جبل وسلات ذي المكانة في تاريخ البلاد منذ القديم. وقد وسمه بطليموس باسم أوزاليتو (Ousaletou) وأسّس فيه الرومان مستعمرة أوبيدوم أوزاليتانوم (Uppidum Usalitanum). وهو اليوم مقفر بعد أن كان معمورا بالقرى البربريّة ومزدهرا بمغارس الياسمين والورد وغير ذلك من النباتات العطريّة وحتّى بقصب السكر ، حسب الجغرافي العربي البكري . وتشهد على ذلك بقايا أشجار الزيتون « الجبّوز» على مسالك الطريق . وأكثر من ذلك إذ كانت مزدهرة هناك صناعة الجليز لتزيين الأرضيّات والواجهات بدل الزرابي ( ص 17) . وفي هذه المرّة مجّد فالّو سكّان ذلك الجبل لشجاعتهم في التصدّي مع إخوانهم سكّان الأوراس للغزوة الإسلاميّة – حسب عبارته – حتّى أنّ الكاهنة زعيمة البربر قد اتّخذت من المكان خطّا دفاعيّا متحصّنة بمسرح الجم . ثمّ استعرض واقعة سقوط عاصمتها جلّولا نقلا عن البكري مرّة أخرى ( ص 17 – 18 ) . بقيت ثلاث صفحات من الرحلة ( ص 18 -20 ) تبسّط فالّو في اثنتين منها لاستعراض تفاصيل التاريخ المكتوب والشفوي لثورات جبل وسلات في عهد البايات ، من 1673 م إلى 1780 م ، بمناسبة مروره قرب أطلال دار الباي – أو قصر إسماعيل باي – في طريقه إلى القيروان المقدّسة فإلى سوسة البيضاء وهو على عجلة من السفر للعودة إلى تونس على متن القطار . وقد أعلم القارئ في ثالثة الصفحات ، وهي الأخيرة ، بأن لا فائدة في إعادة الوصف الذي خصّ به المدينتين إبّان زيارته لهما سنة 1886 م ، حسب ما يفهم من كلامه و امتناعه عن المزيد. التعليق: اهتمّ فالّو كغيره من الرحّالة والأثريين الأوروبيين بمواقع العهد الروماني كالباحث عن الجذور المبرّرة لفكرة الاستعمار واسترجاع المسيحيّة القديمة . وكانت نزعته الاستعماريّة واضحة كلّما وصف تعاسة الأعراب مؤمّلا إنقاذهم بالتمدين في ظلّ الحماية الفرنسيّة مقابل استغلال المعمّرين لخيرات البلاد من أراضيها الخصبة ومناجمها الثمينة . كما كانت عنايته باليهود واضحة أيضا في سياق البحث عن الأصل . انتهى