لماذا نحب الأديب العربي المصري العالمي الكبير نجيب محفوظ ؟ لأننا بالأساس نحب تجربته فى الحياة ورؤيته لها ورفضه لأي إيديولوجيا أو تصور نظري عن الحياة يختزلها ويصادرها ويحرمنا منها، الحياة أعقد من أي لغة أو تصور عنها، مليئة بالدراما والثورات والحروب والحب والآسى والحنين وغير ذلك مما لا تسعه اللغة، جمعت كل التناقضات الممكنة في كتابات نجيب محفوظ... فما هي نظرة محفوظ للحب والزواج؟ محفوظ والحب "الحب يسعد لا يشقي.. ولكن لم أسعد بحبي" بهذه الكلمات افتتح الأديب الراحل نجيب محفوظ حديثه عن الحب في أحد الحوارات، والذي كشف عن فشل كل مغامراته العاطفية بدايةً من بنت الجيران في حي العباسية، وهي العقدة التي طالت الكثيرات من بعدها حتى ظل وحيدًا دون شريكة. ولم يسلط "نجيب محفوظ" الضوء على جوانب حياته المظلمة إلا في مقابلات عديدة أجراها مع الصحفي المصري رجاء النقاش، والذي بدوره أفرغ تلك التسجيلات في أكثر من كتاب، وقد تضمنت أسرارا صادمة عن "أديب نوبل"، أوضحت تركيبته النفسية المعقدة، ومنحت خيوطا تفسر لقرائه مصدر إلهامه في الكثير من رواياته، حتى إنه اعترف في أكثر من مرة أنه "كمال عبدالجواد" الحقيقي، بطل ملحمة الثلاثية، الشاب المتدين المتعلم، الذي يحمل إرثا كبيرا من الثقافة والعادات، ويؤمن بها أشد الإيمان، ولكنها تحطمت داخله، فتسلل إلى عالم البغاء وترك العلم. علاقة "محفوظ" بالجنس الآخر بدأت منذ أن كان طفلا يلهو في حواري "الجمالية" بصحبة الأولاد والبنات، إلى أن دق الحب قلبه في أول قصة بريئة انتهت بانتقاله للإقامة في حي العباسية، وهناك عاش قصة حب أخرى مع "بنت الجيران"، حيث كان على اعتاب المراهقة، وتبادل معها الرسائل الغرامية والهدايا إلى أن هدده شقيقها الأكبر بالكف عن تلك الأفعال الصبيانية، فافترق الحبيبان. تجارب حب فاشلة عديدة مر بها "محفوظ"، دفعته إلى دخول عالم البغاء، والاستسلام له هربا من فشل متوقع في قصة حب أخرى، وعن تلك الفترة قال: "كنت من رواد دور البغاء الرسمي والسري، ومن رواد الصالات والكباريهات، ومن يراني في ذلك الوقت يتصور أن شخصا يعيش مثل هذه الحياة المضطربة، وتستطيع أن تصفه بأنه حيوان جنسي لا يمكن أن يعرف الحب والزواج.. كانت نظرتي إلى المرأة في ذلك الحين جنسية بحتة، ليس فيها أي دور للعواطف أو المشاعر". في أثناء ذلك كان ماضيا على طريق تحقيق حلم مشروعه الأدبي، ولكنه فوجئ بأن الزمن يمضي وهو لا يزال على حاله بدون زوجة، وعن سبب عدم احتياجه لزوجة في تلك الفترة الطويلة قال: "كانت والدتي تقوم بكل مطالبي من طعام وغسيل وكي، فكانت حياتي في المنزل منظمة، أعود لأجد كل شيء كما أريده". محفوظ والزواج لم يكن "محفوظ" ينوي الزواج، حتى تقدم العمر بوالدته وضعفت صحتها، ولم تعد قادرة على الأعباء الكثيرة المطلوبة منها، ما جعلها تلح عليه بشكل يومي ليبحث عن زوجة، وفي كل مرة كان يرفض ويتذرع بحجج واهية، لكنها حاصرته واختارت له فتاة من أقاربه لتكون زوجته إلا إنه رفض عرضها، قائلا: "رفضت عرض أمي، خصوصا بعدما علمت أن أهل الفتاة سيتكفلون بكل تكاليف الزواج من مهر وشبكة وأثاث المنزل.. وجدت أن هذه الزيجة ستكون ماسة بكرامتي بسبب أوضاع الفتاة المالية، وعدم التكافؤ بيننا". تبدل الحال بعد ثورة يوليو 1952، إذ توقف نجيب عن الكتابة، ورأى ضرورة الإسراع بالزواج، بحثا عن حياة أكثر استقرارا، وعن اختياره لشريكة حياته قال: "كان أحد أصدقائي متزوجا، ولزوجته أخت هادئة الطباع رقيقة المشاعر، فوجدت فيها ما أبحث عنه، إذ كانت متفهمة لطبيعة تكويني الشخصية واحتياجاتي ككاتب.. فوجدتني منجذبا إليها وكنت مشدودا بهاجس يقول لي أنت لو لم تتزوج هذه المرة لن تتزوج أبدا". ولقد تزوج الأديب الراحل من السيدة "عطية الله إبراهيم" سرا وهو في الخامسة والأربعين من عمره، ولم يخبر أمه تجنبا لثورتها، لأنها كانت قد رتبت أمر زواجه من قريبتها الثرية، فدخل بها في شقة أخيه "محمد"، ثم انتقل بها للعيش في "عوامة" على النيل، حيث أنجب طفلته الأولى "أم كلثوم"، إلى أن سكن في شقة على النيل، وأنجب ابنته الثانية "فاطمة"، ولا عجب في اسمي ابنتيه، إذ كان الأديب الراحل مولعا بالسيدة أم كلثوم، لذا أطلق على أولى ابنتيه "أم كلثوم"، والثانية "فاطمة"، وهو الاسم الحقيقي لكوكب الشرق "أم كلثوم". وفي عام 1957 جلست محررة مجلة "صباح الخير" أمام نجيب محفوظ تحاوره، ولتسأله بكل صراحة: "لماذا لم تتزوج واحدة ممن أحببتهن؟". رد نجيب محفوظ بتلقائيته المعهودة: "لأن أبى يا ستي مات وفات والدتي لوحدها، ومعاها ولدين صغيرين، وكانت ماهيتى يا دوب وكنت راجلهم الوحيد، وأخواتى اللى أكبر منى اتجوزوا من سنين وانشغلوا بأسرهم، كنت خاطب قبل موت أبويا، لكن تركت خطيبتى بعد ما فهمتها الظروف، وظلت تلك الظروف قائمة حتى سرقنى الزمن وفاتنى سن الزواج". ما لم تعرفه محررة مجلة صباح الخير، وكذلك قراء المجلة، أن نجيب محفوظ فى هذا الوقت، كان متزوجا منذ 3 سنوات، بزوجته الوحيدة حتى وفاته السيدة عطية الله إبراهيم. لم تكن محررة مجلة صباح الخير الوحيدة، التى تجهل هذه القصة، فحتى أهل نجيب محفوظ لم يكونوا يعلمون أنه متزوج بالفعل، بل لديه أبناء، وحتى أقرب أصدقائه، وبأن هذا السر الخطير سيستمر لمدة 10 سنوات كاملة، وفى كل مرة سيسأل فيها أحد نجيب محفوظ لماذا لم تتزوج حتى الآن، سيرد قائلا: "قطار الزواج ...فاتني". ! واكتشف السر ! لم ينكر "نجيب مصر"، أنه تزوج فى السر لتجنب ثورة والدته، لكن دار اللغط حول مدة إخفائه هذا السر، وكيف اكتُشفت تلك الواقعة، فهل أخفى أمر زواجه عن والدته وأصدقائه وأقربائه لمدة 10 سنوات وأنجب خلالها بنتين؟، كما تشير روايات عدة، وهل كان يردد دائمًا للمقربين منه وللصحافة أنه عازف عن الزواج بجملة "فاتنى القطار"، إلى أن انتشر أمر زواجه بعد ما تشاجرت ابنته مع زميلة لها فى المدرسة، وعرف الخبر الراحل صلاح جاهين من خلال والد الفتاة، وانتشر الخبر بين الأصدقاء والأقارب. الكاتب محمد شعير، صاحب كتاب "أولاد حارتنا سيرة الرواية المحرمة" قال إن إخفاء نجيب محفوظ زواجه لمدة عشر سنوات أمر صحيح، فهو تزوج عام 1954، ولم يعلن خبر زواجه إلا عندما تشاجرت ابنته فى المدرسة، واكتشفوا أنها ابنة الأديب الراحل. بحسب "شعير"، فإن جميع الحوارات التى أجراها نجيب محفوظ من عام 1954، إلى 1964 تقريبًا كان يتم التعامل معه باعتباره الأديب العازب، ولم يكن "نجيب" يصحح المعلومة، "كان يقول للصحافة إنه ليس متزوجًا". سواء كان إخفاء نجيب محفوظ، زواجه لمدة قصيرة أو لمدة 10 سنوات تبقى كلماته عنها: "إذا كان لأحد فضل فى المكانة التى وصلت إليها، فزوجتى فى المقدمة، جزاها الله كل خير". وتزامن رحيل عطية الله إبراهيم يوم 14 ديسمبر 2014 في ذكرى ميلاد نجيب محفوظ الثالثة بعد المائة، كما تزامن رحيلها مع إعلان جائزة نجيب محفوظ في الأدب التي خصصتها الجامعة الأمريكية بالقاهرة سنوياً للنص الذي تراه هيئة التحكيم مناسباً لهذه الجائزة...رحم الله محفوظ أي كاتب كان؟