«سري، فاتن، نهائي وجارف» ! على هذا النحو يمكن وصف العلاقة الغرامية التي جمعت بين الشاعر التشيلي الراحل بابلو نيرودا (1904-1973)، الحائز على جائزة نوبل للآداب، وماتيلدا يوروتيا (1912-1985) اللذين تعارفا على بعضهما بنهاية أربعينات القرن الماضي لكن تلك العاطفة الجياشة والحب الجارف كان مقدر لهما البقاء في دائرة السرية طوال سنوات. مات الشاعر بابلو نيرودا مرّة واحدة سنة 1973 بعد الانقلاب العسكري بالشيلي، ودفن أربع مرّات، مرّة أولى في 1973 ومرّة ثانية في 1974 ومرّة ثالثة في 1992، ليحط رحاله أخيرا سنة 2016 بحديقة منزله بإيسلا نيغرا، قبالة المحيط الهادئ، على ساحل التشيلي الوسطي تنفيذا لوصيته الشهيرة: "رفاقي، ادفنوني في إيسلا نيغرا، قبالة البحر الذي أعرف" ! عاد الشاعر إلى حديقة منزله بعد غربة قاسية في أتربة لم يعرفها، قبالة البحر الذي رافقه طويلا، البحر الذي جلس أمامه وكتب قصائده تلك العصافير الملونة التي حلقت في كلّ أنحاء العالم، وسكنت قلوب عشاقه باختلاف اللغات والأجناس والأعراق، يكفي أن يقدّم عاشق لحبيبته قصيدة نيرودا لتفرح الصبيّة فهي المشتهاة وهي الحياة والحبّ ومنتهى السعادة في تلك القصيدة. عاشق حقيقي بعد عقود طويلة من ذكرى وفاته، مازالت روح الشاعر حاضرة بيننا تروي سيرته في السياسة والشعر والحبّ، ربّما يعرف البعض أن نيرودا عاشق حقيقي لماتيلدا زوجته الثالثة وربّما يعلم البعض أنّ شاعرنا شيوعي عقائدي وربّما يعجب البعض الآخر بسيرة الديبلوماسي المارق أشهر شاعر هارب بجواز مزيف في القرن العشرين. من الطرائف التي تروى عن نيرودا هروبه من بلده الشيلي بعد ملاحقة السلطات له مستعيرا جواز سفر صديقه الروائي الغواتيمالي "أستورياس" والذي شغل منصبا ديبلوماسيا بالأرجنتين وتنقل بين دول أمريكا اللاتينية وبعض دول أوروبا قبل أن يحط رحاله بباريس وهو مازال يحمل اسم رفيقه الغواتيمالي. تميّزت حياة نيرودا بالتعدد والثراء لم يعش شاعرنا حياة واحدة بل حيوات عديدة لشخص واحد، العاشق والشاعر والسياسي والمناضل والرحالة والهارب والمنفيّ والسفير وغيرها من التجارب الكثيرة التي مرّ بها بابلو نيرودا. تقلد بابلو نيرودا عدّة مناصب دبلوماسية إضافة إلى فوزه بمنصب نائب عن الحزب الشيوعي التشيلي الذي انتسب إليه في 1945 وعرف بنضاله ضدّ الامبريالية، وبدعمه للفكر الشيوعي، تأثر كثيرا بعد حادثة إعدام الشاعر غارسيا لوركا على أيدي قوات الجنرال فرانكو وأصدر بعد هذه الحادثة الأليمة مجموعته الشعرية "إسبانيا في قلبي" سنة 1938، انتقد ستالين بعد ارتكابه لجرائم في حقّ ملايين البشر قائلا: "أنا ساهمت بنصيب في جعل ستالين بهذا الحجم، لأنّه كان يبدو لي فاتحا سحق جيش هتلر"، وقد قدّم اعتذاره حول تقديس شخصية ستالين في مذكراته "اعترف أنّي عشت". من أشهر ما قيل عن الشاعر بابلو نيرودا ما قاله رفيقه الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز "روائي القارة الأمريكية" إنّ بابلو نيرودا هو من أفضل شعراء القرن العشرين في جميع لغات العالم"، وهو نفس الرأي الذي ذهب إليه الناقد هارولد بلوم الذي قال: "لا يمكن مقارنة أي من شعراء الغرب بهذا الشاعر الذي سبق عصره". الشاعر والنساء لعبت النساء دورا هاما في حياة الشاعر"بابلو نيرودا". ربّما كان يعوّض غياب والدته التي رحلت عنه وهو في الشهر الثاني، تزوّج شاعرنا ثلاث مرّات تزوّج في المرّة الأولى 1930 وارتبط بعدد كبير من العشيقات، أثرّ عليه وفاة ابنته الطفلة بعد معاناتها من عدّة أمراض سنة 1942، ارتبط مرّة ثانية بسيّدة أرجنتينية "ديليا" قبل أن يتعرّف على مطربة تشيلية بالمكسيك تدعى "ماتيلدا أوريوتي" والتي تحوّلت بعد سنوات قليلة إلى زوجة الشاعر التي خلدّها في أعماله الشعرية. كتب نيرودا لماتيلدا ديوانه الأشهر في كلّ العالم " مائة سوناتة حبّ " ونقل من خلاله ملحمية هذا العشق الذي عاشه، ما يمكن أن نتفق عليه أنّ ماتيلدا لم تكن إمرأة عادية للشاعر بل كانت إمرأة الثنائيات العجيبة، إمرأة الرغبة الايروسية وامرأة الطهر المجدلي لقد سيطرت تماما على أحاسيس الشاعر وحوّاسه، فهو الهائم بصوتها وشعرها وثغرها وقال فيها : ماتييلدا، اسم نبتة، أو صخرة، أو نبيذ، اسم أشياء تبدأ في الأرض ولا تنتهي، كلمة ذاك الذي لنموه تفتَّح أول فجر، وفي صيفه انفجر ضوء الليمونات ولقد كشفت الرسائل بين نيرودا وماتيلدا عن حبّ مختلف، حبّ هادر وجارف، عاشق شغوف وشبقي أيضا لا يخجل من التعبير عن أشواقه وغيرته، حبّ غيّر الكثير من حياته العبثية مع النساء ومن مغامراته القصيرة ليصبح عاشقا متيّما بمعشوقته الحلوة ماتيلدا، " ثمّة أمر أهمّ منك ومنّي، إنّه أنت وأنا، معا نكون مالا يبلغه الناس المساكين قطّ". «ثمة أمر أهم منك ومني، إنه أنت وأنا»، هذا ما دونه بابلو نيرودا في لحظة ما غير محددة من عام 1952. ويتابع الشاعر العاشق الشغوف: «معاً نكون مالا يبلغه الناس المساكين قط، السماء على الأرض». تلك الكلمات يكتبها نيرودا من فندق (دي انجلاتيري) الذي كان ينزل فيه في روما، وعلى الرغم من أنه لم يبق في كلماته حيزاً للشكوك مضت ثلاث سنوات اضافية كي يرى الشخص الموجهة إليه الرسالة متأبطاً ذراع الشاعر علنا، حدث ذلك عام 1955 عندما قامت ماتيلد أوروتي ونيرودا بترسيم علاقتهما الغرامية والإعلان عن حبهما أمام الملأ ومنذ ذلك الحين لم يفترقا أبداً بعد أن أصبحت ماتيلدا عشيقة الشاعر أولاً ومن ثم زوجته وفي نهاية المطاف حارسة تركته. ويروي نيرودا في رسائله تفاصيل حياته اليومية حيث يقول: الآن على سبيل المثال وعلى الرغم من أن غرفة الاستقبال مليئة بالناس وأنا لم أتناول طعامي بعد في هذه الساعة المتأخرة من الليل وعلى الرغم من أني مريض بالتعب، أكتب إليك ليس لمواساتك وإنما لاستغلال اللحظة التي انتظرتها ليل نهار. أنا أثق بك وحتى لو لم يكن لديّ سوى صمتك الذي يهمني، ليس لهذا السبب سأذهب بجولة عبر بيرو، أدرك أنك لي وأني لك والرسائل والأخبار تفيض، فحبنا يملأ كل شيء، وكل شيء سيحدثك عني على مدار الساعة وكل شيء يجلب لي أخبارك» في نهاية الأربعينيات بدلت ماتيلدا حياة نيرودا بصورة جذرية، إذ أنها لم تبعد الشاعر عن زوجته ديليا ديل كاريل، التي كان يلقبها نيرودا تحببا بال (النملة الصغيرة) فحسب، وإنما منحته أيضاً قوة الدفع الرومانسية اللازمة لكتابة (أشعار القبطان). كما كانت السبب الكامن وراء بناء منزل الشاعر الشهير المعروف باسم «لا تشاسكونا»، في حين تردد على ألسنة البعض أنها قسمت دائرة علاقات الكاتب الحميمية. بالإضافة إلى أنها أنشات مؤسسة بابلو نيرودا. لم تكن ماتيلدا إمرأة عادية في حياة شاعر غير عادي، شاعر خاض تجارب السياسة من ملاحق من طرف السلطات إلى سفير، من رجل عاشر كبار العظماء في أوروبا وأمريكا اللاتينية، رجل أذهل العالم بشعره الذي مازال يردد إلى اليوم على أفواه العشاق، رجل عظيم لم تروضه سوى إمرأة أدركت بكل فطرة الأنثى أن الرجل طفل صغير لا يرغب سوى في الاحتواء وقليل من الحبّ. !