أي حد لنزاهة القضاء في تونس؟ يبدو أن السؤال أصبح أزليا بعد أن فشل أبناء القطاع في إثبات استقلاليته ودحض التهم التي تحاصره. السؤال الأزلي لم يتغير بما أن الجدل لم ينته وقد لن ينتهي ولكن الإطار في تغير مستمر. عند تأسيس الجمهورية الأولى والتنصيص في دستور 1959 على استقلالية القضاء، كان الأمل كبيرا في وضع حجر الأساس للعمران وللدولة المدنية المتماسكة لكن الأمل خاب بعد الرجات التي شهدها القضاء مع كل محاكمة سياسية، حتى ساد الاعتقاد باحتواء السلطة التنفيذية السلطة الفضائية وتدجينها وتطويعها لخدمة النظام البورقيبي. فرصة التلميع الأولى ضاعت بعد الانقلاب الناعم الذي نفذه الرئيس الراجل زين العابدين بن على ضد سلفه بورقيبة. فالرجل الذي بشر بالديمقراطية وفتح صفحة جديدة يسود فيها القانون وينال القضاء الضمانات الكافية لتطبيقه، سرعان ما تراجع عن بشارته ونصب المشانق والتنكيل بمعارضيه استنادا إلى أحكام قضائية بدت لأغلب الملاحظين جائرة. في هذا العهد تم إعلان شأن كل قاض ينخرط في اللعبة السياسية فيما تمت معاقبة البقية بالتجميد أو الحرمان من الترقية أو النقلة التعسفية… بعد الثورة كانت كل الظروف ملائمة للفصل الفعلي بين السلط وتمكين القضاء من الضمانات الكافية ليلعب دوره الفعال في إعادة بناء الدولة العادلة لكن التجاذب السياسي الحزبي وفقدان الثقة سلفا في عدالة القضاء جعلت الأحكام المؤثرة وخاصة منها ذات الطابع السياسي محل شك. اليوم جدال كبير بين المحامين والقضاة يخرج من دائرته القضائية الضيقة إلى الفضاء السياسي الأرحب لكن المشكلة ليست في الأحكام القضائية ولا في الاجراءات ولا في القوانين ولا حتى المحامين وغيرهم ممن يصطدمون بالقضاة بل في أبناء السلطة القضائية الذين يذبحون يوميا بغير سكين. إن كان هناك تشكيك فبسبب القضاة وإن كان هناك جدل فجراء القضاة أنفسهم لأنهم لم يكونوا قط على كلمة سواء في ما بينهم ولأنهم لم يسطروا خطا أحمر يحول دون تسييسهم وتسييس قطاعهم ولأنهم لم يشرعوا بأنفسهم في تطهير قطاعهم. لا يمكن المزايدة على أي قطاع فلكل فساده وصلاحه ولكن القضاة مدفوعون أكثر من غيرهم إلى الانتهاء في أقرب وقت إلى تنظيف قطاعهم وترك خلافاتهم جانبا لأننا نحتاجهم في تنظيف بقية القطاعات.