يتّجه اليوم الناخبون التونسيّون لاختيار ممثليهم في مجلس النواب للسنوات الخمس القادمة. ولم يعد خافيا على أحد أهميّة هذه الانتخابات التشريعيّة وخطورتها بما تحمله من هواجس، البعض منها مُخيف، يهدد استقرار الوضع العام في البلاد ويكثّف من الغموض حول ما قد تؤول إليه الاوضاع خاصة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي. ولكن في المقابل هناك عناصر طمأنة بما أنّ تونس، وعبّر هذه الانتخابات، تتَّجه إلى انجاح ثورتها التي انطلقت سنة 2011 ومن ثمّ تدعيم مكسب الحريّة والحقوق السياسية والمدنيّة ومن ثمّ تأمين انتقالها الديمقراطي والتحاقها بصف الدول الديمقراطيّة. 1 أوّل انتخابات وفق دستور 2014 الانتخابات العامة، التشريعية والرئاسية لهذه السنة، هي أوّل انتخابات وفق الضوابط التي حدّده دستور 27 جانفي 2014، حيث ستشهد تونس عملية انتقال سلمي للسلطة بها ستدخل رسميا مصاف نادي الدول الديمقراطيّة قاطعة بذلك عهد الاستبداد والتسلّط ومغلقة الأبواب أمام أي مساع أو محاولات للوصول للسلطة بغير صناديق الاقتراع وتحكيم إرادة الشعب. ومهما ستؤول إليه النتائج فإنّ الدستور حدّد حلولا لكلّ المشكلات الطارئة أو التي قد تحدث خلال الفترة النيابية أو العهدة الرئاسية القادمة، فلا مجال بعد اليوم للحديث عن فراغ دستوري بما تمّ تحديده من انتخابات سابقة لأوانها سواء في التشريعية أو الرئاسيّة وفي فترات زمنيّة محدّدة ومضبوطة. ولا شكّ في أنّ اهمية هذه الانتخابات تستمدّ أيضا من المهام الجسيمة التي تنتظر النواب لاستكمال المؤسسات الدستوريّة وعلى رأسها المحكمة الدستوريّة والتي خبر الجميع خطورة تواصل عدم تركيزها على السلم الأهلي والمجتمعي واستمراريّة الدولة واستقرار الحكم بمؤسّساته وأجهزته المختلفة. 2 تحديد ملامح المشهد السياسي القادم في انتظار الدور الثاني للسباق الرئاسي المقرّر الأحد 13 أكتوبر الجاري، سينتخب التونسيّون اليوم الحزب الأغلبي الذي سيكون معنيا بتشكيل الحكومة القادمة وسيختارون أعضاء مجلس النواب الذين منحهم الدستور المصادقة على تلك الحكومة القادمة والشروع في مختلف الاستحقاقات التشريعية التي بمقتضاها يتمّ تسيير شؤون الدولة من موازنات مالية حكومية ومشاريع قوانين وملاءمة منظومة القوانين الموجودة مع حاجيات المجتمع وتطورّه، ولاحقا مساءلة الحكومة ومراقبة أعمالها، إضافة الى مهام أخرى حدّدها الدستور وفصّلها النظام الداخلي لمجلس النواب. ومن المؤكّد أنّ الانتخابات التشريعية اليوم ستكون السبيل لتشكيل المشهد السياسي القادم بمراكز قواه وكتله النيابيّة وأحزاب الأغلبيّة، التي ستحكمها، والأقليّة البرلمانية والاحزاب التي ستقوم بمهام المعارضة. نهاية هذا اليوم، ستُفرز صناديق الاقتراع الملامح الأولى لهذا المشهد، الذي تشير كلّ التوقعات والقراءات الاستشرافيّة الى أنّه سيكون مشهدا جديدا مُغايرا لما عهدته البلاد خلال السنوات الفارطة، إذ في ظل التحوّلات والمستجدّات التي عرفتها الحياة السياسية والحزبيّة منذ 2014 والتي أحدثت الكثير من الفوضى في المنظومة الحزبيّة، حيث فقد نداء تونس الحزب الأغلبي قوّته وتماسكه وضعفت أحزاب وتلاشت أحزاب أخرى وظهرت أحزاب جديدة إلى السطح وتكثّفت ظاهرة المستقلين، يُضاف إلى كلّ ذلك الضغوطات والرهانات الصعبة والمعقّدة الناجمة عن الوضع الاقتصادي والاجتماعي والتي أوجدت حالة من الغضب، عكستها نتائج الدور الأوّل للانتخابات الرئاسيّة، كلّ هذا يُؤهّل المشهد السياسي إلى تشكّل جديد، والسؤال المركزي الذي يُطرح في هذا الصدد هو هل ستعملُ أو بالأصح هل ستكون نتائج الصندوق كفيلة بمنح الفائزين في الانتخابات الآليات المساعدة على تأمين المشهد القادم وتجنبيه كلّ الهزّات والاضطرابات ناهيك وأنّ اجماعا حاصلا بأنّ الوضع الاقتصادي على وجه الخصوص لم يعد يحتمل أي تأخير لإطلاق خطة انقاذ عاجلة في وقت تشهد فيه غالبية المؤشرات المالية والبنكية وموازنات المالية العموميّة صعوبات لم تعد خافية على أحد. 3 اختيار حر وواع ومسؤول يُمارس التونسيّون اليوم أعلى درجات المواطنة باختيارهم لممثليهم ونوابهم في إطار من المدنيّة والتحضّر وبكامل الحريّة وتحكيم الضمير خدمة للتجربة الديمقراطية وضمانا لاستمراريتها ونجاحها، فالتنافس الانتخابي الديمقراطي يبقى دونما شكّ الخيار الأمثل لتجسيد مبدأي الارادة الشعبيّة والتداول السلمي على السلطة. وبالنظر الى ما نصّ عليه الدستور في مجال النظام السياسي، فإنّ عملية الانتخاب اليوم عليها أن تتجاوز حالات الغضب والتصويت العشوائي، سواء أكان عقابيا أو اصطفافا أعمى، وعلى الناخب أن يكون واعيا تمام الوعي بقيمة صوته الانتخابي والورقة التي سيضعها في صندوق الاقتراع، فهو صوت مهم قادر على ضمان مآلات جيّدة لمستقبل الحياة الوطنية ومستقبل البلاد ككلّ. إنّ مسؤوليّة الناخبين كبيرة، وعليهم ضرورة حُسن الاختيار بعد تقييم موضوعي وعقلاني لما قدّم لهم من برامج انتخابيّة من مختلف المترشحين وبعد رصدهم للقائمات وطبيعة الأشخاص المترشحين وفرز الافضل منهم وترك من لا يكون محلّ ثقة بمقعد برلماني قد يستغله لمصالحه الضيّقة أو يُعطّل به مصالح البلاد. خطوة أخرى حاسمة ومصيرية تقطعها تونس على درب التأسيس الديمقراطي وتركيز أسسه نهائيا ودون رجعة، لتنطلق بعدها مشاريع الإصلاح والتنمية وتنفيذ مختلف الاستحقاقات الاقتصادية والاجتماعية للثورة. الانتخاب مسؤوليّة وطنية فلا تدفع بوطنك الى الغموض والفوضى وصوتك أمانة ثمينة فلا تُلقي به في سلّة المهملات بل اجعله صوتا ذي قيمة في تحديد مستقبلك ومستقبل بلادك.