وقد صدرت النتائج الأوليّة للانتخابات التشريعيّة، يُمكن القول الآن في قراءة أوليّة إنّ الناخب التونسي عدّل نسبيا الخطيئة الكبرى التي تسبّب فيها التصويت المفيد في الانتخابات التشريعيّة لسنة 2014 حينما حالت الهالة الكبرى لحزب نداء تونس بقيادة الراحل الباجي قائد السبسي دون إبراز جزء هام من التنوّع في المشهد السياسي وغطّت بشكل كبير موازين القوى الفعليّة للأطراف السياسية ومختلف العائلات الفكريّة والإيديولوجية التي تزخرُ بها البلاد. مؤشّر الضعف الذي انتهى إليه نداء تونس خلال الانتخابات الحالية يؤكّد أنّ التأسيس لم يكن متينا وصلبا وارتهن إلى مسائل ظرفيّة عابرة واعتبارات مرحليّة ضيّقة كانت تستهدف تقليم أظافر حركة النهضة وإنهاء المرحلة التأسيسية التي قادتها ترويكا النهضة- التكتل- المؤتمر. لقد عجز الخليط الذي اجتمع حول الفقيد الباجي قائد السبسي في تحقيق الانسجام المطلوب، بما يستدعيه من رؤية فكرية وأرضية عمل سياسية واحدة والتوافق حول زعيم موحّد يستلم الأمانة من الرئيس المؤسّس ويُحقّق الاستمراريّة لإشعاع الحزب وتماسكه، ولسنا هنا في حاجة للتذكير بمختلف المحطات التي مرّ بها النداء طيلة الخمس سنوات الماضية والتي اتسمت بالصراعات والاختلافات والانقسامات. انتخابات 2019 التشريعية في اتجاهها الى أن ترسم ملامح لمشهد سياسي وبرلماني جديد يختلف كلّيا عن سابقه بسمة بارزة هي التشتّت إلى درجة التفتيت مع تغييب بأغلبيات واضحة، وهذا ما يعني منطقيا صعوبة مرحلة الحكم القادمة. ولكن قد يكون لهذا التشتّت أكثر من فائدة فقد أفرز حالة التنوّع الموجودة في المجتمع، في أعلى درجاتها، وكرّس واقع التشظي في تركيبة المشهد الحزبي، وهي التركيبة التي تضم أكثر من 200 حزب قانوني. فرز آخر وتمثيل للتنوّع المجتمعي قد تكون هي مرحلة ضرورية وطبيعية ولازمة في طريق مسار فرز موازين القوى وترشيح الأقدر والأقوى على تمثيل مختلف العائلات السياسية الكبرى ليستقرّ المشهد البرلماني والسياسي لاحقا عاكسا حقيقة ما بالمجتمع من تنوّع وقوى سياسية وحزبيّة. صعّدت الانتخابات الحالية بشكل واضح: 1- الإسلاميين: بمرجعياتهم وتجاربهم المختلفة ومركز القوة فيهم حركة النهضة. 2- القوميين: ونالت حركة الشعب شرعية انتخابية وشعبية هامّة لتمثيل هذا الطيف. 3- اليسار الاجتماعي: افتك التيار الديمقراطي قيادة هذا الطيف الفكري والسياسي. 4- التجمعيين: ويمثلهم اليوم بصورة مهمة جدا الحزب الدستوري الحر بقيادة عبير موسي. سؤال اليسار المؤدلج والعائلة الحداثية وفي الوقت الذي ضبطت فيه هذه الانتخابات مثل تلك الحدود، فقد طرحت أسئلة حول مكونين أساسيين يحتاجان لبعض الوقت لتحقيق توازنهما ونجاعتهما: 1- أطردت هذه الانتخابات بشكل صريح الرؤية اليسارية القصويّة المؤدلجة بتغييب ممثلين عن الجبهة الشعبيّة التي استحوذ التيار الديمقراطي على جزء مهم من قاعدتها الانتخابية بخطابها اليساري الاجتماعي غير المؤدلج وشعارات محاربة الفساد والدفاع عن الفقراء والمطالبة بالعدالة الاجتماعيّة. ولم يبق للجبهة الشعبية إلا أخذ الدرس من الحصاد الانتخابي وتعديل خطابها بما يتلاءم مع تطور الوعي الانتخابي الذي بات رافضا للسجلات الايديولوجيّة وصراعات الهويّة بما فيها من تجاذبات جانبية لم تعد تسمن أو تغني من جوع. 2- العائلة الحداثية الوسطية: منحت الانتخابات الحالية تمثيلية واسعة ولكنها مشتتة بين أكثر من حزب، فأحزاب قلب تونس وتحيا تونس ومشروع تونس ونداء تونس وآفاق تونس، لو تمّ تجميع حاصلها الانتخابي وعدد مقاعدها في البرلمان الجديد فستكون على الأرجح من الكتل والقوى البرلمانية المحددة لتوازنات وتحالفات المرحلة المقبلة، وما من شك فإنّ منشأ غالبية هذه الاحزاب هو نداء تونس الذي رفع عند تأسيسه شعار الحداثة والوسطية واستكمال المشروع الإصلاحي التونسي، ودونما شك فإنّ هذه العائلة قادرة على تجميع نفسها فهي لم تعد تحتاج الى غير الزعيم القادر على الإدارة الجيدة، وقد يتم هذا التجميع خلال الفترة البرلمانية الحالية وفي أقصى الحالات خلال الموعد الانتخابي التشريعي القادم.انتخابات 2019 كرّست التنوع السياسي دونما شك وأوضحت موازين القوى الأهم وأقامت الحدود بين مختلف العائلات ورشّحت أحزابا دون أخرى لتمثيل كل ذلك التنوّع، فهي انتخابات تثبيت التمثيل لمختلف العائلات السياسية ومن ثمّ تكذيب مقولة انهيار المنظومة الحزبية، بل هي ربّما أقوى من ذي قبل بتجاوزها للمخلفات السلبية للتصويت المفيد الذي تمّ سنة 2014.