منذ سنة 2011 ونحن لا نسمع الا ان ساعة الحرب على الفساد دقت وان اجتثاثه واجب وان تونس لن تقوم لها قائمة الا اذا ضربت هذه الافة في مقتل .. تسع سنوات ونحن نلوك نفس "اللوبانة" ونعيد نفس الاسطوانة حتى انها صارت مشروخة وصوتها مقرف الا ان الجميع يلتجئ اليها خاصة مع المواعيد الانتخابية وما اكثرها في تونس منذ الثورة. بعد تسع سنوات مازلنا نرواح مكاننا في مكافحة الفساد رغم الانذارات الدولية التي حلت بنا وتصنيف بلادنا في اكثر من قائمة سوداء اهمها قائمة الدول المتهربة ضريبيا والمساعدة على تبييض الاموال وتمويل الارهاب بل ان ليبيا التي بلا دولة تقريبا وتتناهشها الحرب الاهلية في كل مؤسساتها اخرجت من هذه القائمة في حن تم تاجيل الملف التونسي بتحويله الى القائمة الرمادية رغم امتلاك بلادنا لمؤسسات عريقة من قبيل لجنة التحاليل المالية اضافة الى ترسانة مهمة من القوانين. الفساد مسّ الجميع كل القطاعات في تونس تقريبا شملها الفساد واقتصادها في "وضع البروك" نتيجة خضوعه لسيطرة لوبيات و بارونات و امبراطوريات تجارية وعائلات واسعة النفوذ تدعمها احزابهي اقرب الى المافيا التي لا تعترف بالدولة ونشطالتهريب و انتعش الاقتصاد الموازي ليلتهم 62 % من الاقتصاد الرسمي وهو ما ادى الى ارتفاع نسبة المديونية وتدهور سعر الدينار وغياب السيولة مما عسر اي عملية لاستعادة التوازنات المالية وحول الحكم الى اشبه بالجمرة يتهرب منها الجميع. حرب «عمياء» منذ سنوات وتونس لها هيئة دستورية عهدت اليها مهمة مكافحة الفساد وفضح الفاسدين الا ان اقصى ما قامت به هو عملية التصريح بالممتلكات وكان الفاسد عاجز عن "اخفاء" ممتلكاته او ان هذه العملية كفيلة بردع الفساد عن الترعرع اكثر فاكثر واعدت الهيئة عديد القوانين ووضعت عديد الاستراتيجات الا ان اغلبها مازال "نائما في الرفوف" لان من سيجيزها ويعطيها الفعالية اما فاسد او متواطئ مع الفساد بل ان الطامة كبرت حتى صرنا الفاسدين يدخلون البرلمان في "ثياب الناسكين" وصار البعض ينفق الملايين للوصول الى البرلمان لينال الحصانة التي تشرع له ان يفعل ما يريد بل كثيرا ما نسمع "زئيرهم" وهم يقسمون باغلظ الايمان انهم قادمون لاستئصال الفساد من "عروقه" لنكتشف بعد مدة قصيرة انهم ما جاؤوا الا لنصرة الفساد حتى نال منا الشك بان الفساد تحميه الحكومة ذاتها والبرلمان فلا مقاومة حقيقية للتهرب الجبائي الذي ضرب محرك التنمية و النمو الاقتصادي ويخنق أي مبادرة للتشجيع على الاستثمار ويعفن البيئة الاقتصادية ويقتل كل اليات النهوض الاقتصادي و يعبث بموارد الدولة ويسبب كل انواع العجز في الميزانية ليتاكد التونسيون مع تواصل ازمتهم الاقتصادية وتدهور قدراتهم الشرائية وتغول الفقر عليهم ان الحرب على الفساد هي حرب "عمياء" بلا خطط ولا استراتيجيات وان زاد كل من يدعي محاربة تلك الافة هو مجموعة من الشعارات يلقيها وهو يضحك في سره على ذقوننا فمنذ أول أيام الثورة والى حد اليوم لم يتحدث احد عن الفساد بتفاصيلهواكتفى "محاربوه" بالحديث عن عموميات. ولم يطرح احد السؤال الأهم والانجع الذي سيضعنا على طريق اجتثاث الفساد بالفعل وليس بالشعارات، وهو ما هي طبيعة الفساد في تونس هل هو مجرد تجاوز للقانون ونهب للمال العام واغراق للسوق بسلع مهربة وعدم اداء للواجبقات الضريبية ام انه اعمق من ذلك ليتحول الى "طاعون" متسلط على رقبة البلاد والاقتصاد بقوة "السياسة" وان من انتخبناهم لمحاربته هم اول المطبعين معه او مقترفيه؟ هل للفساد "سلطة سياسية" تحميه؟ دراسات في مهب الاهمال منذ سنوات والجميع ينبه الى اثار الفساد المدمرة للبلاد واقتصادها وان فئة قليلة حشدت لنفسها امكانيات هائلة للاستئثار بمقدرات البلاد وللعبث بها خدمة لمصالحها كما تتالت الدراسات الدولية المشيرة الى خطورة حجم الفساد في تونس وتلاها تصنيفات خطيرة من منظمات مالية عالمية وهيئات رقابية دولية فمنذ سنة 2017 كشف تقرير لمنظمة "مجموعة الأزمات الدولية" أن حوالي 300 "رجل ظل" يتحكمون في أجهزة الدولة بتونس ويعرقلون الإصلاحات، ويعطلون تنفيذ مشاريع تنموية بالمناطق الداخلية وأعطى ذلك التقرير حقائق صادمة عن البرلمان وبعض النواب فيه ممن يتاجرون بقضايا المواطنين وأصبحت "سمسرتهم" بادية للعيان.. هذا التقرير الصادر عن منظمة تعي جيدا ما تقول ولا تبني تقاريرها إلا بعد استقصاء مركز ومهني يؤكد أن الفساد في تونس يتدثر بأكثر من لباس وانه وصل إلى مواقع صنع القرار والى أهم سلطة وهي السلطة التشريعية الموكول لها سن القوانين والتدقيق في مدى دستوريتها وفي عدالتها. ولم يقف الامر عند هذا التقرير بل تبعه تواتر تصنيف تونس في عدة قائمات سوداء من هيئات رقابية دولية لا تأخذ قراراتها الا بعد جهود مكثفة لرصد مكامن الخلل فهل تغيرت الوضعية وهل استنفرت الدولة جهودها لانهاء تغول هذه الظاهرة؟ غياب الارادة الاجابة عن هذا السؤال يرصدها المواطن في تواصل انتعاش الفساد وتاخر القيامة باصلاحات تضع حدا لتغوله رغفمتاكيد كل الحكومات ان محاربة الفساد هي اهم الاولويات إلا أن الامر لم يتجاوز مرحلة الشعارات في غياب الاستراتيجات الناجعة الكفيلة بالتصدي له فتعطلت المصادقة على مختلف النصوص التشريعية تحت قبة البرلمان "المحاربة للفساد" وليس ادل على ذلك من ان الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد أعلنت قبل سنوات أنه سيتم الكشف عن خطة وطنية لمكافحة الفساد والحوكمة الرشيدة ستكون بمثابة خارطة الطريق للقضاء على الافة ومرت السنوات والخطة لم تجهز بعد ليس لخلل في هيئة مكافحة الفساد بل لان النصوص المنظمة لهذه الخطة تعطلت مناقشتها وهو ما جعل شوقي الطبيب رئيس الهيئة يعلن أن الإرادة السياسية فيما يخص القضاء على الفساد لا تزال بطيئة ولم ترتق إلى مستوى تطلعات الشعب التونسي، مبديا رغبته في أن توفر إرادة حازمة وقاطعة ولا يمكن أن تكون إلا عبر قرارات جريئة وشجاعة تلتزم بهاالحكومة والبرلمان وسائر منظمات المجتمع المدني. الفرصة الاخيرة من خلال نسب المشاركة في الانتخابات واختيارات الناخبين في الاستحقاقين الانتخابيين الاخيرين بدا مليا ان التونسيين ملوا الوعود وعاقبوا الطبقة السياسية الفاعلة منذ الثورة الى اليوم وان بنسب مختلفة وهو ما يعني انهم سيمنحون من اختارهم الفرصة الاخيرة للمضي قدما على طريق الاصلاح والذي لن يتم الا بمكافحة الفساد وفرض منوال تنمية ناجع يقوم على طرح فكر اقتصادي بديل يعتمد علي خلق اسواق حرة للقضاء علي دابر التهريبعبر ادماجه في الدورة الاقتصادية لان فرض سياسات عقابية دون توفير البديل الناجع لن يوفر حلا لتلك الافة التي تقتات منها كل الجهات الحدودية في شرق البلاد وغربها وسيمكن البلاد من تلافي عجزها التجاري الذي بلغ مستويات قياسيةوصلت الى19 مليار دينار خلال سنة 2018 فادماج السوق الموازية في الاقتصاد الرسمي سيمكن المؤسسات التونسية من تطوير قدراتها التنافسية والترفيع في طاقاتها التشغيلية لانها ستراهن على التصدير الذي سيتسفيد من انتعاشه الجميع ومع وضع مخطط متكامل و برنامج اقتصادي اصلاحيتسبقهاصلاحات ادارية جوهرية و عميقة تستبعد كل متورط في الفساد مع قيام الدولة بواجبها الاجتماعي تجاه مواطنيها والبحث عن استراتيجيات تتفق عليها مع كل الفاعلين الاقتصاديين في البلاد فان الفساد ستتم محاصرته واجتثاثه خاصة اذا تم تفعيل مبدا رفع الحصانة مع كل من يثبت عليه ليس الفساد فقط بل التواطؤ مع الفاسدين عبر تعطيل المصادقة على القوانين.