بعد التحرّك غير المسبوق للقضاء في قضيتي النفايات الإيطالية والدّرع الفاسد، وما خلّفه من ارتياح لدى المختصين والرأي العام، اتضح انه لا مخرج اليوم لتونس من أخطبوط الفساد غير الصرامة في تطبيق القانون والتشدد في العقاب دون انتقائية وفي إطار ما يكفله القانون من محاكمات عادلة وبقضاء مستقل لا سلطان عليه في قضائه لغير القانون. منذ 2011، وعلى امتداد السنوات الموالية، استغلّت "بارونات" الفساد حالة الفوضى السياسية التي ألقت بظلالها على البلاد وعلى مختلف أجهزة الدولة - منها القضاء - واستغلت أيضا ضعف وهشاشة مختلف الحكومات المتعاقبة وعدم تحليها بالجرأة والشجاعة، وذلك لارتكاب فظاعات وكوارث في حق الدولة والشعب تراوحت بين الاستيلاء على المال العام والإضرار بصحة المواطن ومصالحه. وما زاد الطين بلّة هو التداخل بين الشأن السياسي والفساد. فعديد الأطراف السياسية أصبحت تجد في المال الفاسد أبرز مساند لها لتمويل أحزابها وحملاتها الانتخابية مقابل توفير غطاء سياسي لأصحابه يحول دون محاسبتهم أو عقابهم وذلك من خلال التدخل في استقلالية القضاء. وهو ما فتح الأبواب واسعة في السنوات الأخيرة أمام كل أشكال الفساد وأمام ظاهرة الإفلات من العقاب بشكل غير مسبوق. اليوم، تتجه أنظار كل التونسيين إلى القضاء ليثبت أنه الضمانة الوحيدة للمصلحة العليا للبلاد وللمال العام ولصحة المواطن تجاه كل التجاوزات التي يحاول من خلالها البعض الاستقواء على الدولة عبر المال الفاسد والغطاء السياسي المتوفر لهم. ففي الديمقراطيات الناجحة اقتصاديا واجتماعيا، وهو المسار الذي تتوق إليه تونس اليوم، لا مجال لإنجاح الديمقراطية دون قضاء مستقل وعادل ونزيه وصارم. ولا يمكن أن يتحقق ذلك دون توفير الدولة كل الظروف أمام القضاء ليكون في مستوى الانتظارات. فالقضاء في حاجة اليوم إلى استقلالية حقيقية تجاه كل من يحاول السيطرة عليه بأي شكل من الأشكال من أجل توفير غطاء للفاسدين ومساعدتهم على الإفلات من العقاب. ولا يمكن أن تتحقق هذه الاستقلالية إلا بتحسين ظروف العمل في المحاكم وتخفيف عبء كثرة الملفات عن القضاة وتحسين أوضاعهم المادية وتوفير الحماية اللازمة لهم. وعلى هياكل المهنة القضائية أن تلعب من جهتها دورا بارزا في هذه المرحلة وذلك من خلال الصرامة والردع تجاه كل من يحاول - بهدف تسهيل الفساد - الإخلال باستقلالية القضاء سواء من داخل القطاع أو من خارجه، ومن خلال الإحاطة بمنظوريها وتوحيدهم ومراقبتهم وعدم تركهم فريسة لسيطرة السياسيين وغيرهم، وذلك إلى حين تخليص البلاد تدريجيا من هذا الأخطبوط. فاضل الطياشي