رتيب مرّ يوم الاستقلال... وكئيبة مرّت الذكرى 65 لعيد الاستقلال. هذا مشهد كرّسه «الثوار الأشاوس» في سياق سعي كل طرف منهم كل حسب مرجعياته وحساباته وسردياته وأدبياته لهدم معالم الدولة الوطنية وطمس عناوينها ومضامينها. فقد غابت الاحتفالات الرسمية، وتوارى «الرؤساء» الثلاثة وكأن الذكرى تقع في بلد قصي، وكأن الاستقلال لا يعني استقلال الدولة التونسية التي تبقى بعد الأشخاص وفوق الأشخاص عنوانا لدولة وطنية بناها رجال ونساء وزعماء أفذاذ.. وضحّى من أجلها رجال ونساء وزعماء منهم من دفع ضريبة الدم وفداها بروحه ومنهم من عانى القمع والاضطهاد والسجون والتضييق. ومنهم من ذاق طعم القهر والإذلال... لكنهم تكاتفوا في باقة وطنية مشهودة حول زعيم فذّ اسمه الحبيب بورقيبة.. ليدحروا المحتل بالجهاد والكفاح تارة وبالمخاتلة وبالمناورة السياسية تارة أخرى إلى أن وجدت الامبراطورية الفرنسية نفسها تحزم جندها وعتادها وترحل لترتفع الراية الوطنية ذات 20 مارس 1956 إيذانا باستقلال البلاد وبانعتاق العباد... وليستتبع ذلك الجلاء الزراعي ذات 15 أكتوبر 1963 إيذانا ببسط السيطرة والسيادة الوطنية على كل شبر من أرضنا الطاهرة... الاحتلال الفرنسي الغاشم لم يكن مزحة ولم يكن حماية كما حاول البعض تصويره في مسعى بيّن لمنح صك براءة للمحتل من فظاعات الاحتلال ومن المآسي التي ألحقها بالشعب طيلة أكثر من 7 عقود من الزمن... والاستقلال الوطني لم يكن صفقة مع المحتل كما يحاول البعض الآخر تصويره وفق سيناريو عبثي هزيل رسمته لهم عقولهم المريضة وأنفسهم الكسيحة. يوم الاستقلال كان نهاية لملحمة نضال وكفاح وبداية لملحمة بناء وتشييد وإعلاء لصرح الدولة الوطنية باشره الزعيم الخالد الحبيب بورقيبة تجسيدا لمشروع دولة وطنية فتية ينعم فيها الإنسان بتعليم عمومي ينشر أنواره في كل الربوع من أقصى البلاد إلى أقصاها... وينعم فيها الإنسان بتغطية صحية مدت له سبل وسائل العافية حيثما وجد على هذه الأرض الطيبة. وكذلك دولة وطنية تنعم فيها المرأة التونسية بحقوقها كاملة غير منقوصة ويستند فيها البناء إلى قيم التضامن في أشمل معانيه وإلى قيم الارتقاء بالإنسان التونسي في أبهى تجلياتها. كل ذلك رغم آفات الفقر والجهل وقلة ذات اليد. فالقائمون على بناء الدولة الوطنية لم يكونوا يملكون خزائن الذهب والفضة لكنهم كانوا يملكون قلوبا كبيرة تتسع لكل أبناء الوطن. وكانوا يملكون إرادة صلبة قادرة على تذليل كل الصعاب... ولذلك فإنهم وضعوا أسسا صلبة لكيان عتيد ارتقى بالشعب التونسي وضمن استمرارية الدولة وإشعاعها بين الدول... وأمّن لمن آلت إليهم الأمور الآن دولة عتيدة قوية لم تكن تستحق أكثر من بعض الترتيبات والرتوشات في علاقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان التي لم تكن تحظى بالأولوية المطلقة والتي تأجل توسيع مجالاتها لفائدة التنمية البشرية ودعم اقتصاد البلاد وبنيتها التحتية. لكن حكامنا الجدد لا يؤمنون على ما يبدو بتلك الدولة الوطنية.. ولعلها تمثل المرآة العاكسة التي تذكرهم بخيباتهم وبحجم الدمار الذي ألحقوه بالبلاد وبالعباد على مدى عشر سنوات عجاف... لقد استكثروا على الوطن والشعب مجرّد احتفالات بالذكرى المجيدة ولو إنقاذا للصورة واحتراما للذاكرة الوطنية، وانكفأ كل واحد منهم داخل شرنقته وكأن الحدث يقع على كوكب آخر أو أن المناسبة تعني شعبا آخر غير شعبهم. وحده الحزب الدستوري الحر حرص على إحياء الذكرى في صفاقس ليؤكد التحامه بالدولة الوطنية، ووحدها حركة الشعب تحركت في قفصة لإحياء المناسبة وإعلان الانحياز للدولة الوطنية... أما رؤساؤنا الثلاث، فقد حضروا بالغياب وحرصوا على إظهار تونس في صورة الدولة اليتيمة التي ليس لها إلا شعبها مع أن لها من الرؤساء بدل الواحد ثلاثة. فما طبيعة الرسالة التي أراد هؤلاء إرسالها وأي وطن يريدون بناءه من غير معاني الانتماء والاعتزاز بالهوية وبالذاكرة الوطنية؟ إذا كانوا أرادوا الازدراء بالدولة الوطنية فليعلموا أنهم اعتدوا على مشاعر التونسيين والتونسيات وإذا كانوا يريدون استهداف مقومات دولة الاستقلال فليعلموا أن للدولة الوطنية شعبا يحميها. عبد الحميد الرياحي