رئيس الجمهورية قيس سعيّد.. المفسدون... إمّا يعيدون الأموال أو يحاسبهم القضاء    فاتورة استيراد الطاقة لا تطاق .. هل تعود تونس إلى مشروعها النووي؟    في علاقة بالجهاز السرّي واغتيال الشهيد بلعيد... تفاصيل سقوط أخطبوط النهضة    مذكّرات سياسي في «الشروق» (5) وزير الخارجية الأسبق الحبيب بن يحيى... يتكلّم الصادقية حاضنة المعرفة والعمل الوطني...!    أخبار المال والأعمال    تقديرات بانحسار عجز الميزانية الى 6.6 ٪ من الناتج المحلي    مع الشروق .. «طوفان الأقصى» أسقط كل الأقنعة.. كشف كل العورات    مع الشروق .. «طوفان الأقصى» أسقط كل الأقنعة.. كشف كل العورات    مزاد دولي يبيع ساعة أغنى راكب ابتلعه الأطلسي مع سفينة تايتنيك    الرابطة الثانية (ج 7 إيابا) قمة مثيرة بين «الجليزة» و«الستيدة»    مانشستر سيتي الانقليزي يهنّئ الترجي والأهلي    ترشح إلى «فينال» رابطة الأبطال وضَمن المونديال ...مبروك للترجي .. مبروك لتونس    فضاءات أغلقت أبوابها وأخرى هجرها روادها .. من يعيد الحياة الى المكتبات العمومية؟    تنديد بمحتوى ''سين وجيم الجنسانية''    ابتكرتها د. إيمان التركي المهري .. تقنية تونسية جديدة لعلاج الذقن المزدوجة    الكاف..جرحى في حادث مرور..    نبيل عمار يؤكد الحرص على مزيد الارتقاء بالتعاون بين تونس والكامرون    استشهاد خمسة فلسطينيين في قصف لطيران الاحتلال لمناطق وسط وجنوب غزة..#خبر_عاجل    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    ماذا في لقاء وزير الخارجية بنظيره الكاميروني؟    طقس الليلة    تسجيل مقدّمة ابن خلدون على لائحة 'ذاكرة العالم' لدى اليونسكو: آخر الاستعدادات    بطولة الرابطة 1 (مرحلة التتويج): حكام الجولة الخامسة    البطولة الافريقية للجيدو - ميدالية فضية لعلاء الدين شلبي في وزن -73 كلغ    توزر: المخيم الوطني التدريبي للشباب المبادر في مجال الاقتصاد الأخضر مناسبة لمزيد التثقيف حول أهمية المجال في سوق الشغل    نابل: الاحتفاظ بشخص محكوم بالسجن من أجل "الانتماء إلى تنظيم إرهابي" (الحرس الوطني)    أكثر من 20 ألف طالب تونسي يتابعون دراساتهم في الخارج    التوتر يشتد في الجامعات الأمريكية مع توسع حركة الطلاب المؤيدين للفلسطينيين    مواطن يرفع قضية بالصافي سعيد بعد دعوته لتحويل جربة لهونغ كونغ    مدير عام وكالة النهوض بالبحث العلمي: الزراعات المائية حلّ لمجابهة التغيرات المناخية    الجزائر تسجل حضورها ب 25 دار نشر وأكثر من 600 عنوان في معرض تونس الدولي للكتاب    المؤرخ الهادي التيمومي في ندوة بمعرض تونس الدولي للكتاب : هناك من يعطي دروسا في التاريخ وهو لم يدرسه مطلقا    كتيّب يروّج للمثلية الجنسية بمعرض تونس للكتاب؟    وزارة التجارة تتخذ اجراءات في قطاع الأعلاف منها التخفيض في أسعار فيتورة الصوجا المنتجة محليا    الرابطة 1 ( تفادي النزول - الجولة الثامنة): مواجهات صعبة للنادي البنزرتي واتحاد تطاوين    افتتاح المداولات 31 لطب الأسنان تحت شعار طب الأسنان المتقدم من البحث إلى التطبيق    تضم فتيات قاصرات: تفكيك شبكة دعارة تنشط بتونس الكبرى    يلاحق زوجته داخل محل حلاقة ويشوه وجهها    عاجل/ إصابة وزير الاحتلال بن غفير بجروح بعد انقلاب سيارته    القلعة الصغرى : الإحتفاظ بمروج مخدرات    تراجع إنتاج التبغ بنسبة 90 بالمائة    هام/ ترسيم هؤولاء الأعوان الوقتيين بهذه الولايات..    تقلص العجز التجاري الشهري    الشابّة: يُفارق الحياة وهو يحفر قبرا    السعودية على أبواب أول مشاركة في ملكة جمال الكون    عاجل/ تحذير من أمطار وفيضانات ستجتاح هذه الدولة..    أخصائي في أمراض الشيخوخة: النساء أكثر عُرضة للإصابة بالزهايمر    التشكيلة المنتظرة للترجي في مواجهة صن داونز    تُحذير من خطورة تفشي هذا المرض في تونس..    عاجل : القبض على منحرف خطير محل 8 مناشير تفتيش في أريانة    دورة مدريد : أنس جابر تنتصر على السلوفاكية أنا كارولينا شميدلوفا    أمين قارة: إنتظروني في هذا الموعد...سأكشف كلّ شيء    هرقلة: الحرس البحري يقدم النجدة والمساعدة لمركب صيد بحري على متنه 11 شخصا    وصفه العلماء بالثوري : أول اختبار لدواء يقاوم عدة أنواع من السرطان    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأستاذ قيس سعيد بين قيم الجمهورية ومبادئ الثورة
نشر في الشروق يوم 23 - 08 - 2021

لما كان المثقف هو بمثابة ضمير الجميع سواء كان يختزل صورة المثقف الكلي أو صورة المثقف الخصوصي (1) فإن قراءة الاستاذ قيس سعيد للدستور ينبغي أن ينظر إليها باعتبارها مدخلاً لدراسة منزلة المثقف في تشكيل المشروع المجتمعي الجديد أي في عملية تنقية المجتمع من القوالب الجامدة والنظم التقليدية للإرتقاء إلى مجتمع جديد يكفل للمواطن حقوقه المدنية في جميع ابعادها وعلى هذا النحو راوحت هذه القراءة بين استلهام قيم الجمهورية من ناحية ونقد الواقع الراهن نقداً يحاكي ثورة هادئة من ناحية أخرى .
1- في قيم الجمهورية
لعل من أبرز القيم التي انبنت عليها الجمهورية ما يتمثل أساساً في نفي الحكم الفردي القائم على الاستبداد وفي سياق النفي والدحض يتأصل الأس الذي تنهض عليه مبادئ الجمهورية بمعنى أن يكون النول في المراس السياسي الجمهوري مشدوداً إلى مسألتين متوازيتين في شكل ترابط عضوي بنيوي جدلي ونعني بذلك إرساء دولة القانون والمؤسسات من ناحية والمشاركة الشعبية المباشرة في ذلك المراس السياسي من ناحية أخرى .
ولئن كانت فكرة الديمقراطية قديمة قدم التاريخ البشري و هي على درجة كبيرة من الذيوع والانتشار بحيث ذاع صيتها في مجتمعات مختلفة و حضارات متباينة حتى غدت شعارا وافرغت من محتواها و أضحى الجميع على اختلاف زوايا النظر ينتصب مدافعا عنها حتى كأنها تندرج ضمن حوزة ممتلكاته فغدت الديمقراطية أشبه شيئ بلباس عسكري يتسع لكل الجنود بل أصبحت في بعض الأحيان وسيلة إقصاء و قد كان ذلك شأنها إلى عهد ليس ببعيد وأيا كانت المفاهيم التي صاغها الفلاسفة و علماء الاجتماع للديمقراطية فانها تؤول على اختلافها الى اجماع بأنها نظام سياسي يكون الشعب أداته و المستفيد منه فهي من هذا المنظور تعني حكم الشعب للشعب و بيد الشعب (2).
و قد رتب عن هذا الاتجاه المفهوم عدة نتائج في مستوى الممارسة منها الاحتكام الى مبدأ العدل و المساواة في فرص الاشتراك في الحكم ان عن طريق الانتخاب و ان عن طريق المجالس النيابية و الؤسسات الدستورية التي يكون فيها حظور شعبي حقيقي وهو مبدأ يقوم على سنة التداول.
و لا ان كانت الديمقراطية تفاوتاً في مستوى الممارسة من مجتمع إلى أخر ومن نظام إلى أخر وكذلك الشأن بالنسبة إلى تونس ذلك أن التهاون بالديمقراطية ومبادئها واخلاقياتها من شأنه أن يشل القوة الحية في البلاد ويجرها المتاهات الصراع والعنف فكلما كان السياق الخارجي التي تجري فيه العملية الانتخابية سياقاً موبوءًا وشاذاً ومشبوهاً يتخلله الفساد ويخضع لسلطة المال ولسلطة الإرادة الأجنبية فإن صناديق الاقتراع لا تحقق آمال الديمقراطية الحقة وكذلك الشأن بالنسبة إلى تعين الديمقراطية تعينا واقعياً في صورتها المثلى أخلاقياً ونظرياً لا يمكن أن تنجز في مجتمع مؤلف من شعب متخلف يبيع صوته بثمن يخس لأحزاب لا تفي بوعد سوى وعد شراء الذمم وعلى هذا النحو تكون للديمقراطية مضاعفات سلبية تنعكس مباشرةً على المجتمع بمختلف فئاته وشرائحه عدا النخبة السياسية التي اتقنت توظيف الديمقراطية توظيفاً برغماتياً يخدم مصالحها فحسب دون أن يخدم مصالح المواطنين والوطن وبناءً على ذلك فإن "الديمقراطية لا تتفق مع الجهل إلا أن تقوم على الكذب والخداع والحياة النيابية لا تتفق مع الجهل إلا أن تكون عبثاً وتضليلاً فإن الذين يريدون أن تسير أمور الشعب إلى الشعب يريدون بطبيعة الحال أن يثقف الشعب حتى يرشد وحتى يأخذ أموره بحزم وقوة ويصرفها عن فهم وبصيرة وحتى يصبح بمأمن عن تضليل المضللين له وتغفل المغفلين إياه لا يستجيب لكل ناعق ولا ينخدع لكل مخادع ولا يدفع إلى الشر كلما أريد دفعه إلى الشر ولا يتخذ أداة لتحقيق اغراض الطامعين وإرضاء شهوات الساسة الذين كثيراً مايتخذٌ الشعب الجاهل الغافل مطيةً إلى كثير من الجرائم والأثام " (3) فالسلطات بهذا المعنى لا تصدر عن الجهل ولا عن الغفلة ولا عن الغباء وانما تصدر عن النفوس المثقفة المهذبة الكريمة العزيزة التي تعرف ما لها فتحرص على الاستمتاع به وتعرف ما عليها وتحرص على ادائه والنهوض به (4) فالذي لا يعرف كيف يضع القمامة في مكانها الطبيعي لا يعرف طبعاً أن يختار الرجل المناسب للمكان المناسب .
وبناءً على إستقراء مواقف الاستاذ قيس سعيد وبعض تصريحاته منذ توليه الرئاسة نتبين أن الخلفية النظرية التي يصدر عنها فهمه للديمقراطية تنهض على مقومين اساسيين متواشجين : احدهما الإقرار بأهلية الشعب التونسي وحقه في المشاركة بوصفها تعبر عن رأي عام سائد في المجتمع التونسي يعتبر المسوغ الحقيقي للمراس الديمقراطي الأصيل يعلو على الدستور في حد ذاته وفصوله في أن معاً لاسيما إذا سلمنا بما أقره بعض العلماء المعاصرين من أن النصوص الأدبية والقانونية انما هي آثار مفتوحة لعدة تأويلات ولتعدد المعنى (5) ولعل هذا ما يفسر تعدد التفاسير للنصوص المقدسة في الأديان السماوية الثلاثة .
ومن هذا المنطلق نفهم لماذا ورد تفعيل ألفصل 80 من الدستور بأخرة نسبياً إذ لا يكفي في تصور الاستاذ قيس سعيد تأويله على نحوٍ من الأنحاء قد يختلف معه اخرون من نفس الإختصاص وانما ينبغي أن تتوفر الظروف الموضوعية الحاضنة لمشروعيته أخلاقياً وحضاريا ووطنياً ونعني بذلك السند الشعبي بمعنى أن الخطر الداهم الذي يهدد الأمن القومي ويهدد البلاد والعباد في أن معاً لم يكن تتويجاً لقراءة الاستاذ ،لهذا الفصل لتقديره لطبيعة هذا الخطر وانما إستجابةً لتفاعل الشعب التونسي بمختلف فئاته وشرائحه مع طبيعة الواقع تفاعلاً أتاح له تقدير مدى الخطر الذي يتهدد حياته ووجوده وينذر بخراب الدولة والعمران .
إذ لم تشهد تونس في مختلف مراحل تاريخها أن بلغ الفقر فيها هذه النسبة المفزعة التي حدت ببعض العائلات إلى تأمين أقواتها من القمامة كما لم تشهد أن تدهورت فيها القدرة الشرائية إلى أدنى المستويات كما لم تشهد أن عم فيها الخوف وانعدم فيها الأمن وسادها منطق الغاب الذي يكون فيه الإحتكام لا إلى قوة الحق وانما إلى قوة العنف مثلما شهدته في السنوات الأخيرة.
ومن نافلة القول الاشارة إلى إنحدار الدينار التونسي إلى أسفل المراتب وإختلال الميزان التجاري وتفاقم المديونية وتقلص الاستثمار وتفشي الرشوة والمحسوبية وشتى مظاهر الفساد وإستغلال النفوذ فضلاً عن إنعدام استقلالية القرار السياسي بخضوع عدة احزاب ونواب إلى الإملاءت الأجنبية مما يؤول بولاء النخبة السياسية إما للاحزاب اللتي تنتمي إليها وإما إلى الجماعة لا إلى الوطن حيث أن منظومة الحكم في تونس لاسيما المؤسسة التشريعية غدت حاضنةً لقول إبن الخفاجة :
ألقاب مملكةٍ في غير موضعها ***********كالهر يحكي إنتفاخاً صولة الأسد
وفوق هذا وذاك فإن إنتشار وباء كورونا في تونس إنتشاراً على غاية من السرعة مما جعل الوضع كارثيا ينذر بالخطر ويهدد حياة المواطنين قاطبةً .
فلا يمكن إذاً لتفعيل الفصل 80 من الدستور أن يتأخر عن موعده (25 جويلية ) لأن الشعب التونسي لم يعد في وسعه أن يتحمل ما يفوق طاقته لاسيما وأن وجوده أصبح في معرض الخطر كما لا يمكن أن يتقدم عن ذلك الموعد لأن الظروف الموضوعية والسند الشعبي لم يتوفرا بصفة مطلقة بكيفية تغني عن تأويل الدستور وفصوله بل تقوم مقامه وتضفي على هذا المنعرج السياسي التاريخي الشرعية والمشروعية في أن معاً .وأما المقوم الثاني الذي يصدر عنه فهم الاستاذ سعيد للديمقراطية فيتمثل في تحقيق العدالة في مفهومها الشامل الذي ينتشر حلقات أوسع فأوسع فمنها إقامة العدل بين المواطنين في تطبيق القانون إذ لا أحد يعلو على سلطة القانون بإعتبار أن إقامة الحدود على الفقراء والضعفاء واسقاطها على الأغنياء والشرفاء كان سبباً في هلاك عدة أمم (6) فضلاً عن كون تكريس العدل بين الأفراد في أي مجتمع من المجتمعات من شأنه أن يشيع في النفوس الشعور بالأمن والسلام ويحفز الهمم إلى مزيد العمل والعطاء إذ كلما أيقنً المواطن بأن الدولة تسعى إلى ضمان حقوقه وإلى توفير ظروف ملائمة لعيش كريم إزداد شعوره بالإنتماء إلى الوطن .
و في المقابل كلما ادرك بان الدولة لا تسعى في سبيل هذا الغرض وانما في سبيل مأرب خاصة لفئة خاصة او لنخبة سياسية خاصة ضعف شعوره بالانتماء الى الوطن و نشط الى البحث عن حلول فردية له و لعائلته أيا كانت طبيعة الوسائل المؤدية لها و السبل المفضية الى بلوغها (7) مما يؤول الى تضارب المصالح و تفشي الافات الاجتماعية و الرذائل الاخلاقية التى لا تهدد استقرار المجتمع فحسب و انما تعجل بانهيار الدولة و مؤسساتها.
و من هذا المنطلق كان الظلم مؤذنا بخراب العمران (8).
و من تلك الحلقات ايضا ما يتمثل في اقامة العدل بين الفئات الاجتماعية بتقليص الهوة الفاصلة بينها فضلا عن اقامة العدل بين الجهات و ذلك بمنح الاولوية لمناطق الضل المهمشة قصد القضاء على كل مظاهر الفقر و الحرمان و الخصاصة حتى تنتفع كل الجهات في ارض تونس من حصيلة التنمية وفق توزيع اعدل لانتاج افضل و في هذا السياق تندرج مبادرة الرئيس المتعلقة بتسوية الديون المتخلدة لبعض رجال الاعمال و هي تسوية من حيث طبيعتها تنم عن حس وطني خلاصته :'' ان الفرد لا يعيش الا من اجل الامة مع ما يتبع ذلك من ان الامة غاية في نفسها .''(9) و على هذا الاساس استلهم الاستاذ قيس سعيد ابرز القيم و المبادئ التى تقوم عليها الجمهورية ليعلن في عيد الجمهورية عن منعرج سياسي جديد و يبشر باستراتيجية ثورية جديدة و هي استراتيجية سياسية و تنموية بعيدة المدى كفيلة بتوظيف طاقات الشعب التونسي و موارده الكامنة عن اقتناع و حماسة بهدف الخلاص من كل مظاهر التخلف و الفقر و المحسوبية و الرشوة و الفوضى و الولاء للاجنبي و التبعية لتحقيق قفزة نوعية حضارية تعيد لتونس بريقها و للشعب التونسي ثرواته المنهوبة .
فكيف هي اذن الثورة الهادئة؟
2- الثورة الهادئة :
من المعلوم ان المجتمع التونسيى شهد فوضى مصطلحية منذ هبوب رياح الربيع العربي العبري شملت عدة الفاظ تقترن بمفاهيم متجاورة و لكنها مختلفة كالحجاب و النقاب و الخمار و الجلباب و الثورة و التمرد و الانتفاضة و الانقلاب .
و لئن كان المقام لا يتيح التمييز المصطلحي بينها جميعا و لكن حسبنا ان نركز في مفهوم الثورة لا لنميز بينها باعتباره حدثا طارئا جد في 14 جانفي 2011 و بين الاستراتيجية الواعدة التى اختط مسلكها الاستاذ قيس السعيد في عيد الجمهورية و انما لنحدد المصطلح الذي يجرى عليه لفظ الثورة تحديدا مفاهيميا جامعا مانعا . فالثورة اذن انما هي تغيير جذري يأتي على كل مؤسسات المجتمع فيعيد توزيع مسلك الاختيارات السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و عادة ما يكون التغيير وليد تصور ما قبلي ينقض ماهو كائن و يتشوف الى ما يجب ان يكون '' فالمفهوم البديل للثورة انما هو انتفاضة قوة مضغوطة محتقنة على قوة ضاغطة مهيمنة نقيضة و تبجيلها و الغاؤها في سبيل فرض ما تعتبره بديلا جديدا متحرا امثل .
ان انتفاضة لا تعطي البديل انما لا تعطي البديل لما تنتفض عليه لا تصنف مع الثورات بل تندرج ضمن الثورات الفوضوية العابثة ''(10).
بناء على هذا الضبط المفهومي لمصطلح الثورة ضبطا مستوفيا للحدود انطلاقا من ابرز خاصية مميزة لها و هي الخاصية التى تكون ضرورية و كافية لتحديد المعنى لانها تتنزل بمنزلة الصفة الجامعة المانعة في كل ثورة مهما اختلف لونها و مهما كانت المجالات التى تعينت فيها و هذه الصفة الجامعة المانعة تتمثل في مقومين اساسيين للثورة و هما النقض فالبديل .
فبالنسبة الى النقض فان الإجرءات التي أعلن عنها قيس الاستاذ سعيد يوم 25 جويلة 2021 تندرج جميعها ضمن النقض . نقض كل مظاهر الفساد بإعتبار أن "الفساد ظهر في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون "(11)
فنقض كل مظاهر التهميش ونقض كل مظاهر الإنحراف الأخلاقي والقانوني ونقض كل مظاهر إستغلال النفوذ ونقض كل مظاهر التخلف والفقر والتطرف والمديونية والجهل نقضا جذرياً يشمل كل المجلات التي أصابها الوهل وتخللها الفساد بإستعمال الشيء في غير ما يصلح له أو بوضع المناصب في أجهزة الدولة على ذمة الأشخاص غير المؤهلين لتوليها والإشراف عليها .
وعلى هذا النحو يبدو أن دراسة العلاقة بين النقض والبديل انما هي دراسة للعلاقة بين الموجود والمنشود ، إذ ينبغي أن تتجه وجهة مبدئية لا لبس فيها .فالعلاقة بين الموجود والمنشود ليست علاقة بين طرفين منفصلين وانما هي علاقة ترابط جذري عضوي تكويني من خلالها يمكن فهم اشكالية النموذج المجتمعي الجديد أو الجمهورية الثالثة هذه الإشكالية لا تسير نحو الوضوح إلا برسم صورة المنشود من خلال الموجود لا بالوصل بينهما وانما من خلال النقض ، نقض الموجود وما قد وجد . فالموجود المتزامن مع الأوضاع السياسية الشاذة الطارئة على تونس ينبغي نفيه نفياً تاما . فلا نقض أياً كان شكله ينبغي أن يصدر عن الإلتزام ذلك أن كل إنخراط ضمن وضعية فيزيائية أو إجتماعية أو ثقافية انما دال على وجهة نظر حول العالم فهو تأكيد للحرية وحد لها في آن واحد " فإن إلتزم القيام بهذه الخدمة معناه أن في مقدوري ألا أفعل ذلك وفي آن واحد أقرر أن استبعد هذه الإمكانية " (12) ومن هذا المنطلق يكون للإلتزام بعد إلزامي يجعل المرء لا يمكن أن يلتزم بالشيء وضده في أن معاً .
وفي هذا السياق نفهم رفض الاستاذ قيس الحوار مع بعض الاحزاب النافذة في الحكم اذ لا يمكن ان يلتزم الدفاع عن قضايا الشعب و في الان نفسه يحاور من يراهم مصدر بؤس الشعب و هو ما يناقض الموقف القائل بان قرارات 25 جويلية انقلاب و في الان نفسه فرصة للاصلاح و الحوار
فالالتزام الايديولوجي في جل الفلسفات المعاصرة انما هو رديف المسؤولية ، و المسؤولية في حد ذاتها تعبير عن الحرية لذلك فان الانسان بوصفه فردا حينما يبدع صورة خاصة للانسان يتخيرها لنفسه يكون '' مسؤولا امام نفسه و تجاه الاخرين ''(13)
و يبدو ان الالتزام الذي اقترن بمنعرج عيد الجمهورية يصدر عن خلفية نظرية تختزلها فلسفة كانط حينما يعتبر ان ''الالتزام انما هو كل فعل يؤدى بمقتضى الواجب فيستمد قيمته لامن الهدف الذي يلزم تحقيقه فحسب و انما من القاعدة الاخلاقية التى يتقرر تبعا لها''(14) و على هذا النحو يكون الالتزام في اطار هذا المنعرج السياسي رديفا للواجب الصادر عن قاعدة اخلاقية معينة دون ان يكون مقتصرا على مجال دون اخر من مجالات المجتمع التى تمس حياة المواطن .
على ان هذا الواجب لا يكاد ينفصل عن حس وطني يحتضنه شعور ذاتي يرضخ الانسان بموجبه الى دوافع نفسية و منازع ذاتية يتألب فيها مع المجموعة البشرية المنتمي اليها تألبا وجدانيا و انفعاليا ''(15)
قصد السمو بوطنه الى اعلى المراتب من بين الاوطان ذلك ان ''الوطني الحق هو الذي يجتهد في نفع وطنه و يقف من مواطنيه كالاب الناصح و يحاول دفعهم لعظائم المساعي و يحزن لحزن من يتعهده و يفرح لفرحه و لا يطيب له عيش الا اذا راه في مثل غبطته و فرحه(16)
فالرنو الى تحقيق ذلك الهدف يخلصنا الى ابراز المقوم الثاني من مقومات الثورة الهادئة و نعني بذلك الابرام او البديل هذا البديل في تصورنا يمثل استراتيجية مستقبلية هي بمثابة خارطة الطريق نخالها قائمة على لفيف من الأركان :
فمنها السعي الى القضاء على كل مظاهر الفساد ايا كان مصدرها و ايا كان اصحابها وفق مقاربة قانونية عادلة من شأنها ان تعيد للشعب التونسي جزءا و لو قليلا مما نهب من امواله و ثرواته تعيد له توازنه النفسي و المعنوي و منها اعادة النظر في طبيعة النظام السياسي ذلك ان التجربة السياسية المنصرمة منذ 14 جانفي حتى يومنا هذا نؤكد بما لا يدع مجالا للشك انها تجربة هجينة لم تستوعبها انظمة البلدان ذات العراقة الديمقراطية الموغلة في القدم فما بالك بديمقرايطة ناشئة ليست لها تقاليد متواترة ومنها إعادة الحياة للديمقراطية بتنقيح المجلة الإنتخابية وسد الأبواب ومنافذ الأمول الفاسدة والأساليب الملتوية .
ومنها تنظم إنتخابات تشريعية سابقا لأوانها حتى تلجم الأفواه القائلة بأن منعرج 25 جويلة عودة إلى الوراء والإستبداد .
ومنها السعي إلى الحد من التضخم ومن المديونية ومن الفقر ومن إختلال التوازن بين الأسعار والقدرة الشرائية ، ومنها إعادة الإعتبار إلى العمل من حيث أنه قيمة حضارية مطلقة ومنها السعي إلى تحقيق عادالة إجتماعية من خلال التوزيع الأمثل للثروات بحيث تشمل خيرت التنمية جميع المواطنين على إختلاف مشاريعهم وجميع الجهات أياً كانت مواقعها .
خاتمة
وحصل ما ال إليه النظر في العلاقة الوشيجة بين قيم الجمهورية ومبادئ الثورة الهادئة انها علاقة قائمة على الاستلهام استلهاماً ينهض على توظيف القيم الأصيلة توظيفاً براغماتيا بما من شأنه أن يتلاءم وخصوصية الواقع وطبيعة المستجدات الطارئة على المجتمع التونسي .
ومن ثمة كانت الثورة الهادئة لا تكمن في بناء الحاضر على الماضي وانما في نقض الموجود نقضاً يتبلور من خلاله المنشود في صورته المثلى سياسياً وأخلاقياً و حضارياً .
الهوامش
1 )ميشال فوكو : السياسة الاسبوعية . دسمبر 1976 ص 31
2 )محمد علي أبو ريان : تاريخ الفكر الفلسفي . أرسطو والمدارس المتأخرة .ط مصر 1974
3)طه حسين : مستقبل الثقافة في مصر .ط بيروت 1982. ص 146
4 )المرجع نفسه ص 147
5) Umberto Eco : L'œuvre ouverte Paris.1965
6) أبو عبدالله القرطبي : الجامع لأحكام القرأن .ط دار احياء التراث بيروت
7)حسين مؤنس : الحضارة .سلسلة عالم المعرفة العدد 237 ألسنة 1998
8) إبن خلدون المقدمة
9) بويد شيفر : القومية عرض وتحليل تعريب جعفر خصباك .ط بيروت 1966 ص 20
10 )نديم نعيمة : بين المهجريين وحركة الشعر الحديث (مخطوط) ص 237
11 )الأية 41 من سورة الروم
12) Maurice Marleau : sens et non sens .Paris 1946 P143
13 )جان بول سارتر : الوجود والعدم .ترجمة عبد الرحمن بدوي . ط بيروت 1980
14 )يمنى العيد : في معرفة النص . ط بيروت 1983 . ص 84
15 )عبد السلام المسدي : التمزق والصراع في أغاني الحياة . مجلة القلم 1976
16 )عبد العزيز الدوري : تعقيب على مقال التكوين التاريخي لمفاهيم الأمة ، القومية الوطنية .مركز دراسات الوحدة العربية . ص 36


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.