أجرى الحوار في دمشق : عبد الرؤوف المقدمي يتواصل الحوار منسابا، مع الدكتورة بثينة شعبان، وتواصل إجاباتها بشكل جريء يصعب أن تتصوّره من مسؤول في سلطة، خصوصا أن صورة نمطية للمسؤولين اخترقت الأذهان وأصبحت واحدة!. ولكن مع جرعة جرأة كلام السيدة، تلاحظ بيسر أنها شخصية «براغماتية» أيضا، وأن خطط عملها واضحة في ذهنها كفعل، وليس كشعارات، وأن تشخيصها للواقع ليس شتيمة وسبّا في الآخر، وإنما هو تنبيه رصين لما هو مطلوب، وإلحاح عليه، وسعي للمرور الى معالجة الأشياء بعد أن أصبح تشخيصها معلوما للقاصي وللدّاني. لذلك هي شديدة الحساسية للطابور الخامس الاعلامي العربي الذي لا يركب إلا على النقيصة، ولا يرى غيرها، ذلك الطابور الذي لا عمل له إلا نشر الاحباط، وتأليب الرأي العام على حكّامه بل وعلى أوطانه، خصوصا في هذه الفترة التي من المفترض أن تكون النّخب وغيرها قد استنتجت منها دروسا، وأيّة دروس، واستخلصت منها حلولا هي ممكنة، وأكثر، أي ضرورية بل وضرورية جدا. - وأقول لها ألا تعتقدين أن ما فعله شارون بعد قمة بيروت، هي هجمة أمريكية اسرائيلية تقول للعرب أن القرار 242 أصبح ملغى، أو متجاوزا زمنيا يعني أنه لم تعد توجد مرجعية قانونية للسلام، أنسوا القرار 242 وحدود 67، ولنتحدث حول أمور هائمة غائمة، حول وعود لا ضامن لها، نحن كعرب رفضنا هذا القرار لسنوات أو على الأقل هذا ما كان يظهر، ولما أردنا أن يقع تطبيقه، أصبح غير قابل للتطبيق؟ هم بالجلسات الرسمية يعلنون دوما أنهم متمسكون به، حتى أمريكا تقول أنها ملتزمة بالسلام في الشرق حسب مرجعية ال 242 وأنا أعلم تماما ماذا تقصد. وسأتحدث بما تقصد. وأنا متفقة معك أن هذه ضربة للقرار 242، وأن شارون لا يريد السلام وأن هناك مخططا امبرياليا لكن مرة أخرى أقول لك، أنا كعربي هل أقف مكتوف الأيدي أم أحاول أن أفضح هذا التوجه الامبريالي. هل حاولنا نحن أن نقول للعالم أن اللغة التي يستخدمها بوش أو الادارة الأمريكية لا قيمة لها، لأن الفيتو الأمريكي يخدم كل مصالح الاستعمار والاستيطان والتهجير في فلسطين. هل حاولنا أن نشرح ذلك وليس مرتين أو ثلاثة، بل كل يوم؟ هل حاولنا أن نقول للعالم هذه المبادرة العربية على اساس القرار 242، وأنه كيف يمكن أن تدعم الادارة الأمريكية شارون بل وتسمّيه رجل سلام؟ ما نتحدث به نقطة قوة لمنطقنا نحن كعرب لم نستخدمه بشكل كاف. وإذا ما أردنا أن نعرف ما هو شعور أمريكي يعيش في تكساس حول الشرق الأوسط. - وأقاطعها العادي، يعني ؟ نعم العادي. - لا هو يسمع به أصلا. نعم. لكن دعني أسألك، وماذا نعرف نحن مثلا عمّا يجري في الشيشان. في الحقيقة لا نعرف، نستقي كل معلوماتنا من الاعلام، والاعلام العربي الآن للأسف أصبح يصبّ في خدمة الصهيونية. - كيف ؟ أنا أبحث عن تعابير تخدم الحق العربي عندما يقولون أن طائرات أمريكية قصفت أهدافا، هي لم تقصف أهدافا هي قصفت منزلا، وقتلت أطفالا، ومدنيين ونساء. - شهداء؟ بالضبط شهداء ليس موتى. نحن نتحدث عن قضايانا بلغتهم. - لأننا نترجم ما يقولون ؟ حين يقول الرئيس عرفات أو السيد قريع أننا نطلب من اسرائيل أن تخفّف من قبضتها على الفلسطينيين : هل ننسى الاحتلال. أنا قرأت الخطة الاعلامية الاسرائيلية لعام 2002 في كتيب، وهو كلّه يركز على نقطتين ؟ - أولا تخليد حقيقة الاحتلال عند الرأي العام العالمي. - وثانيا التحدث عن الاسرائيليين والفلسطينيين كطرفين متناظرين. ونجحوا في ذلك، نجحوا حتى القادة العرب الآن، ووزراء الخارجية يتحدثون عن الطرفين. - هذا طبيعي ففي قمة بيروت احتوى البيان الختامي على ضرورة ايقاف العنف بين الطرفين، إذن أنت حكمت على مقاومتك بأنها عنف، الذي ترجمته إرهاب؟ لو سرت بالمبادرة وخلقت ضجة حولها، كانت لا تهمّ هذه الكلمات التجميلية، لكنك تركت الجوهر المبادرة كلها لم تعط حقها، والآخرون يتمسكون بما يريدون، وصناعة الرأي العام تتمّ في مكان آخر ليس لدينا، هل لدينا مركز واحد يتحدث عن المصطلحات حيث يجب أن نستخدمها في مخاطبة الآخر؟ ما هو توجهنا ؟ ما هي رسالتنا ؟ هل لدينا الآن رسالة في العالم العربي؟ ولذلك نحن متلقّون للخبر حتى حول قضايانا، نحن لسنا صانعين له، وهذه مشكلة أساسية. كيف نتخطّى ذلك هذا هو سؤال. نحن في مرحلة نضب إرادي حالم. لا أعلم ماذا أوصفه، ولكن لا بدّ من فعل شيء، من ذلك أن نموّل كل مشاريعنا. في الغرب عندما يخططون لمصطلحات سيقع استعمالها العام القادم، فورا يناقشون ماذا سيكلّف وضع هذا المصطلح وتسويقه، يخصّصون المبالغ ويضعون الكادر (الاطارات) ويبدأون في العمل. نحن آليات العمل لدينا معطّلة. نتحدث كثيرا ونعمل قليلا أو لا نعمل أصلا. ولكن أرى الآن إرادة لفعل شيء على المستوى الشعبي كيف يمكن تطوير تلك الارادة لآلية عمل. لا أعرف، مع أن الكثير من الأموال العربية تذهب الى مراكز الأبحاث في الولاياتالمتحدة. وأنا أعرف ذلك، إنهم يموّلونهم بحجّة أن الموجود في هذا المركز هو صديق للعرب، ولكن طبعا، هذا الكلام نسبي ولو ذهب ربع هذا التمويل لمراكز أبحاث عربية حقيقية، لكان أجدى ولربّما حققنا بذلك تواجدا في الساحة الغربية، هذا هو الواقع. - معقول جدا، لكن هذه الهجمة تجد أيضا في مستوى الأقطار العربية ظروفا تهيّئ على الأقل للتواطؤ معها، غياب المجتمع المدني، الحريات، الكفاءات التي هي ربما أهم حتى من العامليْن السابقين ؟ أواصل : - علينا أن نغيّرها بأنفسنا أيضا، وأن لا ننسى بأننا هناك إما مجهولين تماما أو محقود علينا، لكن نحن الى الآن، وبأشياء ضرورية، وبسيطة أحيانا لا نفعل شيئا. إن البيت ا لداخلي العربي وترتيبه هو مشكلة؟ هذا الكلام سليم ونحن بحاجة من أجل وجودنا وبقائنا أن نفكّر بطريقة مختلفة، وأن نمتلك الواقع بطريقة مختلفة وأن نمتلك الجرأة الأدبية أن نسمّي الأشياء بمسمياتها، هذا شيء. واتخاذ الذرائع من أجل تمرير هذه الهجمة علينا شيء آخر، أنا بدون شك من الناس الذين هم مقتنعون بأننا نحتاج الى جرعة كبيرة من الجرأة، ونحتاج الى وطنية أكثر، ونحتاج الى احساس حقيقي بالانتماء بعيدا عن المناصب وعن غيرها. - هذا طبيعي جدا، وسليم، والإنسان يولد منتميا فإما أن يبعد أكثر عن انتمائه أو يقترب منه أكثر . هذا راجع الى عدة عوامل، كلّ هذه الكفاءات المهدورة مثلا دليل على ذلك. السياسي المعارض مثلا، خاصة هذه النوعية الجديدة التي رأينا طلائعها في العراق، هو بطبعه محترف سياسة، بل أحيانا محترف بيع وشراء، لكن مع الكفاءات هناك مشكلة حقيقية! وتقول : حتى الانتماء بحاجة الى منهج وإلى تربية وإلى تكريس. في أمريكا مثلا، هناك توليفة من شعوب الأرض كلّها، وحين تعيش هناك تتساءل من هو الأمريكي، ومرّة أردت أن أركب «تاكسي» من نورث كارولاينا الى منطقة ريفية بعيدة، فقلت للمرأة التي كنت أسكن معها، هل أستطيع أن أركب تاكسي الى حيث أردت الذهاب، فقالت لي، في الحقيقة تستطيعين إذا كنت محظوظة ووجدت من يتكلّم الانقليزية! هل تتصوّر؟ ولكن أمريكا كرّست حالة الانتماء إليها في المدارس، في الشارع، في المحلات. بعد أحداث 9/11 في يوم واحد بيع مليون علم أمريكي. تمرّ في البلدان العربية نادرا ما ترى العلم، ونادرا ما تراه نظيفا مرفرفا، شامخا. هل نكرّس في أذهان أطفالنا حبّ علم البلاد، حبّ الانتماء، حبّ الوطنية، بالطبع كلنا نولد بشعور طبيعي بالانتماء، لكن ذلك أيضا بحاجة الى عمل، هل مناهجنا تكرّس هذه التربية. وبالتأكيد نحن كعرب كلنا مقصّرون، لم ننجح في بناء مؤسسات، لا توجد في الغرب مؤسسات عليها شخص يحيي ويميت، لا تجد الا من يقوم بمهمة، في السياسة مثلا، يكون صنعها في أمريكا مختلفا تماما عما يصنع عندنا نحن العرب، الموظف في الكونغرس أكثر من مهم لأنه هو كاتب تقرير عضو الكونغرس الذي يعتمد على التقرير اعتمادا كاملا. ولذلك نحن لم نبن آليات عمل مؤسساتية حقيقية، مازلنا فرديين، ومازلنا إما نعتمد على الحكومة بشكل مطلق، أو نلومها بشكل مطلق. وهذه مشكلة. كلنا سادة في التنظير، لكن في العمل، في التطبيق، كم منّا يلتزم فعلا بأخلاقيات الانتماء وبسلوك الانتماء. - ولماذا نعجز عن هذا رغم كل هذه المخاطر والدروس والتنبيهات ؟ لأننا لم نؤسّس لأخلاقية مجتمعية حاكمة، لأننا لا نتبع التقييم الحقيقي في العمل، أحيانا من لا يعمل يكون أهم بكثير من الذي يعمل. أعتقد أيضا أننا كأمة عربية نفتقر الى النخبة، لا بدّ من نخبة تفكر وتقرّر وتنشر الأساليب. والأمر الآخر، أصبح هناك خلط في العالم العربي بين النخبة الفكرية وبين النخبة المادية. والنخبة المادية وصلت الي الثراء غالبا بطريقة غير مشروعة، وافتقرت الى أخلاقيات العمل، وأصبحت تمثل مشكلة. - ولماذا لا نطوّعها ثانيا الى اتجاه آخر وهذا ممكن؟ وهذا يجب علينا فعله، أو على الأقل أن نرفض أن هذه نخبة، وأن نعود الى النخبة الحقيقية أي الفكرية الاخلاقية الوطنية. لا بدّ من فرز كلّ هذا. هذا على المستوى الداخلي أما على المستوى الخارجي فلا بدّ لنا من الصمود ومن تحصين ذواتنا. أنا أقول هذا انطلاقا من الإيمان بمستقبل هذه الأمة، فأنا رافضة لمن ينطلق من حالنا ومشاكلنا ومآزقنا ليقول أنه لا مستقبل لنا. هذا كلام غير مقبول وغير مسؤول. وهناك تيار كامل الآن مدعوم من الغرب وموجود بشكل مكثف يدعونا الى الاستسلام والإحباط القاتل، بل وأن نكفر! - ومقابل هؤلاء هناك من مازالوا يتحدثون بلغة تبالغ لكن في الاتجاه الآخر. إذن نحن نحتاج الى لغة ثالثة، إلى ما يمكن أن نسمّيه وسطية واعتدالا؟ الطريق الثالث هو أن نتحدث بقصد إيجاد علاج، لكن الماضي عليه أن يكون مسكونا فينا كعزّة نفس بل وكإيمان لا يزعزعه شيئ، وأن نتحدث عن الحاضر بجرأة وحرص حقيقي. بالمناسبة كلّ المجتمعات الأخرى لديها أخطاء. «غوانتانامو» أليست أكبر مهزلة في التاريخ لدولة تدّعي أنها لا تخطئ. وهناك 30 مليون فقير معدم، ومجتمع قاس على كل من لا يمتلك المال. - صحيح، لكن هذا لم يؤثر على الولاياتالمتحدة كصورة، كدولة، كقوّة؟ تعلم لماذا؟ لأنهم يدفعون ملايين الدولارات ليلا نهارا، لصناعة تلك الصورة. صناعة الصورة هي صناعة في حدّ ذاتها. لكنها صورة حقيقية في جزء منها؟ في جزء منها نعم. هي ظاهريا دولة قانون ومؤسسات، لكنهم يستخدمونها كما يشاؤون، لديهم نظام ذكي جدا بلا شك صدّقني إذا قلت لك أن حرية الاعلام عندهم لا تتعدّى حريته في دول عربية. أنا أقول لك هذا عن قناعة. لقد عشت هناك، وأعرفها. - كلامك صحيح. هم يعلمون أن غوانتانامو فضيحة، لكنهم لا يأبهون. ما يهمّهم هي صورة الأف 16، صورة الأباتشي، الشركات العابرة للقارات، هذا هو الذي يهمّهم. تلك الصورة التي يروّجونها. ولكن إذا أردنا أن نشرّح هذه الدولة فلا يجب أن نقسو على أنفسنا كثيرا، لنشرّح مجتمعنا بكلّ مواصفاته، نشجّع ثم نعالج، دعني أعود بك الى مسألة فقدان الآليات الحقيقية للمعالجة. نحن نجتمع، نقول كلاما تمّ ننفضّ. - ولماذا لا نتطور، لماذا نراوح مكاننا رغم كلّ هذا الوعي؟ النظام العربي هو الذي لم يتطور، نحن في هذا الأمر متخلّفون. ماليزيا مثلا، وضعت استراتيجية وعملت لمدة عشرين عاما وأصبحت بلدا يعتدّ به. بل وخلقت نظاما بحيث إذا ما غادر مهاتير محمّد، هناك نخبة تحكم، ويبقى النظام. ولا توجد مشكلة. مهاتير محمّد أتى الى هنا وقال إن المسألة ليست معجزة، وليست صعبة، لدينا فكر ولدينا عقل، ولدينا الامكانية، وأنا مؤمنة أن المشكلة في العالم العربي ليست صعبة، إذا اجتمعنا مائة شخص من هذا العالم ووضعنا خطة ووضعنا التمويل خلال سنتين سنحدث تغييرا حقيقيا في العالم العربي، المسألة كلها مرتبطة بثنائية الإرادة والإيمان.