عندما تطأ قدماك أرض مدينة دوز يعتريك إحساس عميق بأنك تعود الى طفولتك... ذلك أن هذه المدينة النائمة على أبواب الصحراء الكبرى مازالت لم تنس جذورها المغروسة في أعماق الرمال... الرمال فتنة الرحالة والمؤرخين فهي نموذج حي للتداخل بين البداوة والحداثة. شمس الاصيل تلقي بضوئها الخافت على الواحات وعلى الرمال الناصعة البياض... صهيل الخيول... صوت بونة يأتي من بعيد مفعما بالحنين والحزن والمرارة مرارة العشاق الهائمين في الصحراء على خطى المتصوّفة وأبناء السبيل... صوت «الغيطة» وإيقاعات الطبلة... من ليبيا والجزائر والكويت وفرنسا ودبكة فلسطين... آلاف البشر من مختلف الجنسيات... حركة المرور المستحيلة بسبب الاكتظاظ في دروب الواحات... قوافل الابل والفرسان العائدين من حنيش... رائحة الخبز البدوي تملأ الوجدان. هكذا تبدو دوز في عرسها السنوي مهرجان الصحراء الدولي في دورته السادسة والثلاثين التي حققت نجاحا منقطع النظير من 27 الى 30 ديسمبر. عجبا... كيف تستطيع هذه المدينة التي تضم منطقتها البلدية 36 ألف ساكن أن تسع كل هؤلاء البشر الذين يتجاوزون أي تصوّر للعدّ؟ هكذا سألني أحد الاصدقاء الصحفيين المصريين عندما شاهد عجز النزل عن استيعاب هذا العدد من الوافدين. إن هذا السؤال لا يحتاج معجزة للاجابة عنه ذلك أن بيوت أهالي دوز مثل قلوبهم مفتوحة للجميع فيعسر أن تجد عائلة واحدة في دوز أيام المهرجان بلا ضيوف فهؤلاء الناس الذين اختاروا الاقامة في أعماق الرمال روّضوا الصعاب وانتصروا على قسوة الطبيعة بزرع الواحات وحفر آبار الماء وتربية الابل والخيول والماشية في محاولة لتأكيد قدرتهم على الحياة. ساحة حنيش واذا كانت دوز الآن مدينة من أجمل المدن واذا كان أهلها قد حطّموا كل الارقام في احترام العلم والمعرفة وهذا ما تبرزه نسبة الخريجين كل عام وعدد المؤسسات التربوية قياسا بعدد السكان فإنهم لم ينسوا تقاليد الصحراء التي تربّوا عليها والتي يقدمونها كل يوم في ساحة حنيش أمام 100 ألف مواطن من كل الجنسيات. ساحة حنيش قد تكون أكبر ركح في العالم... 11 ألف هكتار تحتضن منذ سنة 1910 عروض المهرجان التي تعبر عن عادات البدو العرس التقليدي وجوه الرجال «بالحولي» الابيض كرمز للفخر والكبرياء... زغاريد النساء... الهودج بألوانه المميزة لمدينة دوز... امحمد بن البشير يتقدم بفرقته موكب الفرح... هذا الفنان المنسي الذي اختاره طلبة المعهد العالي للموسيقى لانجاز بحث عن «الغيطة» كآلة نفخ... أصوات البارود... حمحمة الخيول... المهاري البيضاء القادمة من هقّار في أعماق الجزائر والتي طالما تغنّى بها الشعراء الشعبيون في ملاحم العشق والحب المعذّب. عراك الفحول... سباق الفرسان... موكب الصيد بالسلوي والتمتع بمشهد مراوغة الارنب لسلوي ايطالي... فرق الفنون الشعبية بألوانها وإيقاعاتها المختلفة: ليبيا الجزائر مصر فرنسافلسطين وفرق من الجنوب التونسي. إن ساحة حنيش هي مهرجان متحرك من الالوان والايقاعات وسجلت في هذه الدورة إقبالا منقطع النظير من القنوات التلفزية من ألمانيا واسبانيا وفرنسا خاصة الى جانب الصحافة المكتوبة. عمود فقري إن مهرجان الصحراء الدولي هو العمود الفقري للسياحة الصحراوية فالاشعاع الذي وصل اليه في السنوات الاخيرة فاق كل تقدير لاصالة المنتوج الذي يقدمه... هذه الدورة تضمنت سباقا للفروسية سباق المداومة نظمها المهرجان بالتعاون مع الجامعة التونسية للفروسية... وبدعم من سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم ولي عهد دبي ووزير الدفاع في دولة الامارات العربية المتحدة إذ قدم منحة للمهرجان وتبنّى جوائز الفروسية وينتظر أن يتبنّى سباقا للفروسية في مدينة دوز أواخر فصل الربيع 2004. هذه المشاركة الاماراتية تؤكد انفتاح المهرجان على محيطه الصحراوي العربي خاصة ذلك ان مهرجان الصحراء الدولي هو أكبر مهرجان عربي في فنون الصحراء وثقافاتها. أربعة أيام في دوز كانت أياما من السحر. نور الدين بالطيب