لم يطلق علي بن غذاهم الماجري كلمته الشهيرة «لا خلاص لكم من ثقل هذا الحمل إلاّ إذا جمع الله كلمتكم على الامتناع»، من فراغ بل من وضع متفجر، حيث أكثر من 80 بالمائة من الشعب التونسي يعيش في الأرياف ويتعرض لاضطهاد مضاعف بالضرائب المشطة وظلم العمال والمسؤولين. يجب كذلك أن نصف لكم الظروف الغريبة التي أحاطت بما قبل هذه الثورة الشعبية، وخصوصا فساد النظام واستعمال طرق تعسفية في استنزاف الشعب لتعويض الأموال المنهوبة وفق النظام الفاسد الذي أقامه الوزير الأكبر مصطفى خزندار. قليلون يذكرون اسمه الأصلي «جيورجيوس سترافلاكيس» وهو من مواليد عام 1817 بجزيرة خيوس اليونانية، استعبده الأتراك وهو طفل بعد أن أبادوا أسرته ثم أرسلوه إلى باي تونس حيث انتقم لنفسه بتسلق سلم السلطة حتى أصبح وزيرا أكبر في عهد محمد باي عام 1855. أقام مصطفى خزندار نظاما ماليا في تونس يقوم على معادلة بسيطة: اقتراض الأموال من الفرنسيين باسم مشاريع الأيالة التونسية، ونهب الجزء الأكبر منها، وتعويضها بنهب الشعب التونسي بالضرائب وخصوصا سكان الأرياف، لأن العديد من سكان المدن والأرباض كانوا معفين من دفع الكثير من الضرائب والمكوس سواء التي يفرضها الخزندار أو التي يجتهد العمال والخلفاء في اختلاقها لملأ جيوبهم الخاصة. ولتنفيذ هذا النظام، اعتمد الخزندار على عدة أشخاص فاسدين مثل نسيم شمامة، اليهودي المكلف بمقابيض الدولة، ومحمود بن عياد الذي كلفه الباي منذ 1847 بمسؤولية دار المال. كما نجح خزندار في الانفراد بالباي الغارق في الفساد والجواري، فيما ينسب له الكثير من المؤرخين اغتيال شقيق الباي «حمودة باي الأمحال» أي باي الشرطة، لمجرد أنه كان يعارضه في بعض طرق النهب، وأطلق أيدي العمال والخلفاء في المناطق والجهات بصلاحيات واسعة تبدأ من العقاب البدني والسجن وتصل إلى قتل واغتيال كل من تظهر عليه بوادر الاحتجاج، وأصبح كل من ينتمي بأي شكل من الأشكال إلى نظام الحكم فوق القانون وانقسم الناس إلى جزئين منفصلين: الجزء الذي هو في الحكم أو قريب منه وكان معفى من الضرائب والإجراءات المقعدة وكان يحس نفسه فوق القانون يطلق أيديه في أرزاق الشعب دون حساب ولا عقاب وجزء آخر أغلبه في الأرياف يعاني ويلات الجزء الأول ويدفع كلفة الفساد. وفي ظل ذلك الوضع البائس، عجزت الدولة تدريجيا عن الوفاء بالتزاماتها، لذلك تم اختراع ضريبة المجبى الأولى عام 1856 والتي لم يجد لها الناس مبررا وكانت في حدود 36 ريالاً على الشخص، أي حوالي 3.56 دنانير من أموال اليوم، وهو مبلغ كبير جدا في عصره (الريال التونسي يساوي 2.7873 غراما من الفضة أو 0.1755 غراما من الذهب، يعني 355 مليما بقيمة اليوم اعتمادا على ثمن الذهب). ويجب أن نذكر هنا أن البدو بحكم ثقافتهم الدينية التقليدية وخصوصا غياب أي خدمة حكومية كانوا يرفضون كل أشكال الضرائب والمكس ويجدون في الفقه الإسلامي نصوصا تحرمه وتلعن من يأخذه مثل ما يروى عن النبي (ص) مرفوعا إلى أبي داود: «لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ صَاحِبُ مَكْسٍ»، أو كما نجد في أدبيات ذلك العصر مثل ما جاء في كتاب «مطالب أولي النهى» لمصطفى السيوطي الرحيباني، (619/2): «يحرم تعشير أموال المسلمين -أي أخذ عشرها- والكُلَف -أي الضرائب- التي ضربها الملوك على الناس بغير طريق شرعي». غير أن تلك الضريبة التي استحدثت لنهب الأرياف وتعويض النقص الفادح في إنفاق دولة البايات لم تكن تكفي لتعويض الأموال الطائلة التي نهبت فجاء القرار بالزيادة فيها إلى الضعف.