لم يكن الصائمون في تلك السنوات التي خلت يفطرون على الآذان بل لا بدّ من صوت المدفع الذي يطلق من حامية الجيش في الجانب الآخر لنهر الفرات. وقد أصبح صوت المدفع قرين تلك السنوات أما المنادي على السحور فهو الآخر شخصية طريفة إذ لا يقوم بالمهمة إلا من عرفوا بخفة دمهم، ولذا يجوبون الشوارع والأزقة ضاربين على طبولهم وقد توزعوا في شوارع المدينة، كل واحد له مجاله، وفي عيد الفطر يدور هؤلاء الذين سهروا الليالي حتى لا ينسى الصائمون سحورهم على البيوت ليحصلوا على العيديات، بعض النقود، أو حلوى «الكليجة» العراقية الشهيرة وما تمنّ به الأيدي. وفي مصر يسمونه «المسحراتي» وهناك حكايا وطرائف عن هؤلاء المسحراتية الذين «انقرضوا» الآن بعد أن زودت الجوامع بمكبرات الصوت التي تصل كل الآذان، وبعد أن أصبحت ساعات البثّ التلفزي طيلة أيام السنة. انقرضوا مثلما «انقرض» السقّاؤون الذين لحقت بهم وكانوا يأتون بالماء إلى البيوت في صفائح من النهر مقابل مبالغ مالية بسيطة أقول «انقرض» أؤلئك السقّاؤون الذين ذهب عنهم مثل مصري شهير (يبيع الميّة بحارة السقّايين) وغنتها شريفة فاضل في احدى أشهر أغانيها. كما «انقرض» الجسّارون الذين كانوا يشرفون على فتح الجسور على نهري دجلة والفرات في أوقات محددة كل يوم لتمر السفن المحملة بالبضائع، وهناك أسر تحمل لقب «الجسّار» لأن أحد أفرادها الأجداد غالبا جسّارا فذهب اللقب إلى الأولاد فالأحفاد. هذه كلها كانت حاضرة في سنوات الأربعينات والخمسينات ولحقنا على آخرها في الستينات قبل أن «تنقرض» كانت معها طقوسها، ومعها ألعابها وعناوين سهراتها، وخاصة لعبة «الماجينا» حيث يدور مجموعة من الصبية منادين أمام باب كل بيت «ماجينا ماجينا حلّ الكيس واعطينا)، وعندما يطول النداء ولا أحد يردّد من سكان البيت ينادي أحد الفتية: (يا أهل السطوح تنطونا لو نروح؟) وغالبا ما يأتي الجواب بسكب سطل من الماء على رؤوس الفتية فيكون الجواب: (رشّوا علينا الماي يا بيت الفقر!). هذا عدا لعبة «المحيبس» ومعناها (الخويتم) أي مصغر خاتم، وهي لعبة الكبار، وفي رمضان تجرى اللعبة في أشهر المقاهي حيث تتبارى المحلات فيما بينها مقابل أطباق من الزلابياء والبقلاوة. لعبة «المحيبس» مازالت باقية حتى أن بعض الفضائيات العراقية تنقلها نقلا مباشرا عن أحد مقاهي بغداد الشهيرة. ذلك الماضي ذهب. وأولادنا لا يلعبون «الماجينا» بل ينصلبون أمام شاشات كومبياتراتهم حيث يطل كل واحد من حسابه الفايسبوكي ممارسا لعبة «ماجينا» خاصة به لا علاقة لها بماجينا أبيه وأجداده. وهكذا الدنيا! ومن يدري أي لعبة ستكون غدا؟!