يبدو أنّ المجلس التأسيسي مقبل بعد شهرين من العمل على مرحلة صعبة عنوانها إيجاد صيغة توفيقية بين المهمة الأساسية التي من أجلها انتُخب والالتفات إلى المشاكل المتراكمة في الجهات والتي ستصبح متابعتها أمرا مفروضا على جدول أعمال المجلس في قادم الجلسات وفق المؤشرات التي بدت حتى الآن. فالنقاشات التي شهدها المجلس في المرحلة الماضية بخصوص مختلف فصول مشروع النظام الداخلي وخاصة في ما يتعلق بإدراج فصل ينصّ على تخصيص أسبوع من كل شهر لقيام النواب بزيارات ميدانية إلى الجهات وما يتبع تلك الزيارات من رفع تقارير عنها إلى مكتب رئاسة المجلس لمتابعتها ومناقشتها في الجلسات العامة أظهرت أنّ هذه «المهام الجديدة» ستتطلّب وقتا طويلا وقد تجعل من الصعب على المجلس التفرّغ لمهمة كتابة الدستور في المدّة الزمنية التي تواضع عليها معظم الأطراف داخل المجلس. ونقول هنا «مهام جديدة» لأنّ ما كان يتردّد قبل الانتخابات وبعدها أنّ أعضاء المجلس إنّما انتُخبوا لكتابة دستور جديد للبلاد، ولكن الحقيقة أنّ نقاش مختلف أبواب وأقسام مشروع النظام الداخلي للمجلس - والتي تمّ الفراغ منها الليلة قبل الماضية بالتصويت على القانون برمّته - أظهرت أنّ أشواطا من العمل لا تزال تنتظر المجلس التأسيسي ربّما قبل البدء بصياغة الدستور، مثل تكوين مختلف اللّجان التشريعية والتأسيسية والخاصة (لجان الحصانة والتحقيق والمتابعة ) وتحديد تركيبة كل لجنة وصلاحياتها وتنظيم مواعيد اجتماعاتها وتكوين الكتل البرلمانية والاتفاق على تركيبة ندوة الرؤساء وتنظيم سير الجلسات وكل ما يخص الأمور التنظيمية لعمل المجلس، وهذه مهام وإن بدت في ظاهرها شكلية فهي ذات أهمية بالغة وسيتطلّب إنجازها شيئا من الوقت المخصّص أصلا للمهمة الأساسية. وبالعودة إلى ما قاله رجال القانون في مهام المجلس التأسيسي نجد أنّ الأستاذ الصغير الزكراوي أستاذ القانون الدستوري يؤكد أن المجلس هو سلطة سيدة وسلطة أصلية لا يمكن الحد منه ولا يمكن إلزامه بشيء ودور المجلس سيكون بالأساس إعداد دستور للبلاد وهي المهمة التي انتُخب من أجلها، والمجلس هو الهيكل الوحيد الحاصل على الشرعية ولا يمكن لأي هيكل آخر أو حزب أن يفرض إرادته على المجلس الذي سيتحول إلى السلطة الأصلية. كما يمكن – حسب الأستاذ الزكراوي - أن تُسند للمجلس مهمة تشريعية وبإمكانه وقتها مراجعة القوانين على غرار قانون الأحزاب وقانون الصحافة وذلك للإعداد للانتخابات الرئاسية والتشريعية وقبلها للمرحلة الانتقالية وكذلك مراقبة الحكومة والتصويت على الميزانية... وهي جملة من المهام التي أسندت للمجلس التأسيسي سنة 1956. أما الأستاذان الحبيب العيادي، أستاذ متميز في كلية الحقوق بتونس والصادق بلعيد، العميد السابق لكلية الحقوق بتونس فقد أشارا في دراسة مشتركة أنجزاها قبل انتخابات 23 أكتوبر 2011 إلى أن المجلس التأسيسي ستكون له ثلاث مهمات أساسية وهي أولا القيام بالمهمة التشريعية العادية كلما دعت الحاجة إلى ذلك، ثانيا المصادقة على قانون تأسيسي للتنظيم الوقتي لسلط الدولة والمصادقة على تعيين رئيس للجمهورية (وهو ما تم إلى حدّ الآن) وتحرير دستور جديد يقدم للاستفتاء الشعبي في أجل معقول. ومن البديهي، حسب أساتذة القانون، أن مهمة المجلس التأسيسي وكذلك مهمة رئيس الجمهورية وأيضا مهمة الحكومة ستكون مهام وقتية ومحصورة في فترة زمنية قصيرة. هذه الفترة وإن اتفق معظم مكونات المجلس اليوم (من ائتلاف ومعارضة، باستثناء المؤتمر) على تحديدها بسنة واحدة وفقا لوثيقة المسار الانتقالي الموقعة قبل الانتخابات، فإنّها تبدو واقعيا مرشّحة للتمديد، فالأيام الأخيرة طُبعت بعودة لافتة للحركات الاحتجاجية والاعتصامات في أكثر من جهة ورافق ذلك دعوات من جانب بعض أعضاء المجلس، وخصوصا محمد كحيلة وإبراهيم القصّاص بضرورة الالتفات إلى مشاكل الجهات. ولعلّ اللّهجة المريرة التي تحدّث بها القصّاص في إحدى الجلسات الأخيرة تؤكّد أنّ المجلس لن يتمكّن من التفرّغ لمهمته التأسيسية (صياغة الدستور) وفي قلوب أعضائه حسرة على ما يجري، كلّ في جهته، القصاص تحدّث يومها عن أنّ مياه الشرب في الجنوب غير صالحة حتى للاستعمال الحيواني، وحذّر من أنّ نواب الشعب ماضون نحو نكث عهودهم تجاه المواطنين الذين انتخبوهم وصاروا على وشك مصارحتهم بعجزهم عن تحقيق كل تلك الوعود التي أطلقوها خلال حملاتهم الانتخابية، وكحيلة حذّر من أنّ المجلس بات في واد والشعب في واد آخر، وفي ذلك مؤشرات غير مُطمئنة لسلطة يتفق الجميع على أنها الوحيدة الشرعية والممثّلة لإرادة هذا الشعب... كلّ هذه التصورات تجعل من البديهي ربّما العمل على التوفيق بين متطلبات الجهات ومعاناتها وبين المهام التشريعية والتأسيسية للمجلس، ولكن الخطير في ذلك أنّ طرح هذه القضايا التي تهم المواطنين في حياتهم اليومية على الجلسات العامة للمجلس قد يؤدّي إلى تداخل السلطات والصلاحيات بين المجلس والحكومة، فللمجلس سلطة التشريع والرقابة على عمل الحكومة، وللحكومة أن تنظر في القضايا والمشاكل اليومية... وفي مطلق الأحوال ستكون المهمة صعبة على كلا المؤسستين وسيكون لزاما على كل طرف أن يلزم حدود صلاحياته وأن يسعى بالأساس إلى خدمة مصلحة البلد دون إغفال لقضاياه الحارقة ولا إطناب في البُعد الجهوي لطروحاته.