تلفزيون الواقع كشف «حياة» الناس فأثار الاشمئزاز عند البعض والترحيب عند البعض الآخر، ولئن نجح أحيانا في التقريب بين القلوب، فإنه عمّق أحيانا أخرى الهوّة بين أفراد العائلة الواحدة، على أن تجاوز المحظور لا يمكن قبوله. كان لقضية الطفل ربيع ضمن برنامج «المسامح كريم» على قناة حنبعل الأثر البالغ في نفوس المشاهدين... استياء ورغبة جامحة في الانتقام الشديد من قاتليه... وقبل ذلك كانت برامج «عندي ما نقلك» وجاءت «الحقيقة» و«جاك المرسول»... برامج سعى من خلالها منتجوها ومقدموها الى كشف المستور والغوص في خفايا وأسرار المجتمع. خفايا وأسرار كشفت حقائق مرة... أثارت السخط والاشمئزاز عند البعض والترحيب عند البعض الآخر... وغذّت روح التشفي عند صنف ثالث... هذه البرامج التي أسست لمشهد بصري جديد في تونس قوامه الاقبال الشديد عليها رغبة في اضفاء الفضول والتعرف على اشكاليات ذات طابع سرّي في العلاقات بين أفراد الأسرة الواحدة. إنه تلفزيون الواقع الذي لا يعتمد على نص مكتوب ولا على مشاهد معدّة بل يعمل على نقل واقع ويقدم حكاية ويعرض موقفا من الواقع بكل تفاصيله المرّة... دموع... وحنين... غضب واستياء ورغبة جامحة في القصاص ورفض مطلق للتجاوز والعفو... هذا المشهد الجديد في علاقة التونسي بالتلفزيون اليوم... أسّس لمشاهد جديد يبحث في هذه البرامج عن مشاعر وأحاسيس واستدرار للعواطف ورغبة في اطفاء لهيب مشاعر متدفقة وشحنات حميمية متوثبة... لكن في المقابل هناك المشارك في هذه البرامج والذي يقبل عن طيب خاطر «التعرّي» أمام المشاهد والكشف عن خصوصيات وتفاصيل «سرية» من حياته تحت عناوين شتى: الشجاعة... الجرأة... حرية التعبير... مواقف عديدة يعيشها المشاهد من خلال هذه البرامج... مواقف مؤلمة... محزنة... دموع... وأحلام ضائعة... وتجاوزات ل«أعراف المجتمع». لئن نجحت بعض برامج «تلفزيون الواقع» في التقريب بين القلوب المتحجّرة وأعادت التائهين الى أحضان عائلاتهم فإنها في المقابل عمّقت حلقات الهوة بين أفراد العائلة الواحدة... فإزداد تصدّع القلوب ولم يشفع استدرار العواطف في كسب العفو والتجاوز عن الأخطاء. إنّه التناقض الصارخ في مدى الأهداف الايجابية لمثل هذه البرامج وعلاقتها بالمتلقي... فكيف يمكن تحقيق التوافق بين الأمرين..؟ وهل من الضروري وضع خطوط حمراء لا مجال لتجاوزها حتى يقدم «تلفزيون الواقع» خدمات ايجابية للمتلقي؟ بمعنى آخر... الغربلة أصبحت حاجة ماسة وأمرا ضروريا لأنه ليس كل اشكال بجائز تمريره في تلفزيون الواقع مهما كانت الشعارات التي سيتظلّل بظلّها... «تلفزيون الواقع» مطلوب منه التعاطي بإيجابية مع المجتمع وخصوصياته وأن يرفع «الشارة الحمراء» أمام التشفي والتباكي واستدرار العواطف... لا هدف من ورائها سوى هتك أعراض الناس والدوس على قيم المجتمع وهذه مسائل تعود بالنظر بدرجة أولى الى منتجي ومقدمي مثل هذه البرامج.