لما بلغتني أصوات تنادي بعدم الاكتفاء بنص الفصل الأول من دستور 1959، والمطالبة بضرورة التنصيص في الدستور الجديد على أن تكون الشريعة الإسلامية المصدر الأساسي والوحيد للتشريع
أدركت أنها أصوات غريبة عن النهج الإسلامي التونسي المعروف باعتداله واستنارته، وصدقت الرواية القائلة بأنها تعبر عن مذهب متطرف متحالف مع نظم سلطوية معادية للنظم السياسية الحديثة، وفي مقدمتها دساتير الدول المدنية، وهي تحاول بالتنسيق مع القوى الكبرى أن تكبح جماح الثورات العربية، وأن تؤسلمها حتى لا يبلغ الحريق عقر الدار.
ازدادت دهشتي لما قيل: إن بعض القوى المدافعة عن التيار الأصولي المستورد، والمستضيفة لمن يمثله من الدعاة الغلاة تزعم انتسابها لتراث الزيتونة ! هنا أسعفتني الذاكرة فتخيلت المناضل الكبير الزعيم عبد العزيز الثعالبي يتجول عام 1904 في أسواق مدينة تونس، وهويومئذ شاب زيتوني في العشرينات من عمره، منددا بالزوايا، ونشر الخرافات، وتبني الفكر الغيبي الأسطوري لإلهاء الشعب عن قضيته الأساسية : النضال من أجل الحرية والاستقلال، وقد زج به في السجن.
وتذكرت أن الزيتونيين الذين سقطوا شهداء بالعشرات يوم 09 أفريل 1938 كانوا يطالبون ببرلمان تونسي على غرار برلمانات الدول المدنية الحديثة، ولم يطالبوا بتطبيق الشريعة، وتذكرت دخول طلبة الزيتونة في مطلع خمسينات القرن الماضي في إضراب جوع بالجامع الأعظم، وشن مظاهرات سقط فيها الشهداء مطالبين بتحديث التعليم الزيتوني، والانتقال من الجلوس فوق حصير المساجد إلى مؤسسات تربوية حديثة تدرس فيها اللغات الأجنبية والعلوم العصرية، وتضامن معهم شيوخهم المستنيرون فأسسوا جمعيات خيرية لبناء معاهد زيتونية حديثة، وشجعوا المتفوقين بينهم للدراسة في الجامعات الأجنبية شرقا وغربا، ولم نسمع من زعماء الحركة الطلابية الزيتونية من تحدث يومئذ عن تطبيق الشريعة، فقد تعلموا من شيوخهم المستنيرين ضرورة التفتح على جميع الثقافات، وأنه لا خوف على الإسلام من الإفادة من التجارب التحديثية، كما أفادت الأجيال السابقة من حضارات الشعوب في بنائها للحضارة العربية الإسلامية أيام ازدهارها، وأن إسلام الاختلاف، وتعدد الرؤى قد أشع من عاصمة المغرب الإسلامي : القيروان شمالا في اتجاه الأندلس، وجزر البحر الأبيض المتوسط، وجنوبا في اتجاه الأقطار الإفريقية جنوب الصحراء، وشرقا ليبلغ بغداد وسمرقد، لما أدت مصلحة السلطة إلى القضاء على التعدد والتنوع، وفرض المذهب الواحد، والرأي الواحد خفت إشعاع المدينة، وبدأ الانحدار.
من المعروف أن المجلس التأسيسي الأول الذي وضع دستور 1959 قد ضم بين صفوفه عددا من الزيتونيين الذين حملوا السلاح في ثورة التحرر الوطني، ولكننا لم نسمع من طالب منهم بأن يتضمن الدستور التنصيص على أن الشريعة مصدر سياسي ووحيد للتشريع ! وتذكرت كذلك أن شهداء ثورة الحرية طالبوا بالشغل والكرامة، ومقاومة الفساد، ولم يطالبوا بتطبيق الشريعة.
تذكرت كل ذلك وأنا أستمع إلى صاحبي يقص علي حكايات الناعقين الجدد المتوافدين من وراء الحدود مبشرين بفكر أصولي تكفيري غريب عن التربة التونسية، وداعين إلى ختان البنات، وإجازة الزواج العرفي، وغيرها من الأساطير، والمؤلم في ذلك أنهم يقومون بذلك باسم الإسلام، والإسلام منهم براء. قال صاحبي : ومما يزيد في دهشتي وحزني أنهم ينزلون ضيوفا على جمعيات أسست لتكون في خدمة التوعية الإسلامية، بل بلغ الأمر بمن يدعي تمثيل الإسلام السياسي المعتدل أن يلتقي بأحدهم في خلوة مريبة متبركا بتقبيل رأس أحد هؤلاء الغلاة !
قلت في نفسي : لعل صاحبي يبالغ، إذ أنني لا أتصور أن يوجد في تونس من يصدق هؤلاء المشعوذين الذين تصدى لهم الزعيم المصلح عبد العزيز الثعالبي قبل أكثر من قرن ؟
ثم سألته : أين البقية الباقية من الزيتونيين : لماذا لا يحاولون الكشف عن غوغائية هؤلاء انطلاقا من الرؤية الإسلامية العقلانية؟
قال صاحبي : هيهات ! أنسيت أن كثيرا منهم قد تحلقوا حول مائدة النظام الاستبدادي المافيوزي، وزين بعمائمهم محافله، ودعوا له من فوق المنابر بالنصر، و طول البقاء !
قلت : رغم ذلك فهنالك بقية باقية وفية لتراث الزيتونة التنويري والتحرري، وهذه فرصتهم لإعادة الاعتبار لزيتونة الشيخ سالم بوحاجب، والطاهر الحداد، والشيخ الطاهر ابن عاشور، وابنه الشيخ الفاضل.
قال صاحبي : تجولت في الماضي فتهت، ونسيت الإشكالية المطروحة في العنوان.