يدفع غلاء أسعار المواد الغذائية بكثيرين إلى مقاطعة بعض المنتوجات الهامة والاكتفاء بأكلات بسيطة قد تغيب عنها المنافع الصحية الضرورية للجسم البشري. في الأثناء ينصح خبراء التغذية بالتركيز على تلبية الحاجيات وليس الشهوات. منذ أشهر عديدة، يعاني التونسيون من ارتفاع أسعار اللحوم والأسماك والخضر والبيض والغلال ومشتقات الحليب، وهي كلها مواد ضرورية للصحة البشرية بكميات مُعينة يوميا. و كان المعهد الوطني للإحصاء قد أشار مؤخرا إلى ارتفاع أسعار غالبية السلع خلال شهر فيفري 2012 وحلت أسعار المواد الغذائية في الطليعة بنسبة ارتفاع ناهزت (8.3 بالمائة) مقارنة بفيفري من سنة 2011. وأشارت بيانات معهد الاحصاء الى تواصل ارتفاع مؤشر مجموعة التغذية والمشروبات طيلة فيفري 2012 بنسبة 1.4 بالمائة مقارنة بشهر جانفي الذي سبقه وذلك بسبب ارتفاع اسعار اللحوم (4.8 بالمائة) والخضر (2.1 بالمائة). مخاوف الارتفاع في الأسعار بشكل عام و في أسعار المواد الغذائية الطازجة بشكل خاص أصبح يدفع بعائلات كثيرة إلى محاولة التحكم في النفقات المخصصة للغذاء فلا يجدون من حل غير التقليص من الكميات التي تعودوا اقتناءها من مواد غذائية طازجة أو معلبة، ومقاطعة مواد أخرى وهو ما يطرح لديهم مخاوف من امكانية إصابتهم بنقص في التغذية خاصة لدى الاطفال الصغار. اللجوء للعجائن ! في تصريحات ل«الشروق» قال مواطنون أرباب عائلات أنهم أصبحوا مضطرين لاستنباط حيل عديدة تمكنهم من مجابهة غلاء المعيشة. لكن ذلك تطلب منهم مجهودات عديدة لأن كل المواد بلا استثناء شهدت ارتفاعا جنونيا في أسعارها ما عدا المواد المدعمة من الدولة وهي العجين الغذائي والخبز والزيت النباتي والسكر والحليب. وكان لا بد من «التضحية» ببعض المواد على حد قول العم رشيد (متقاعد و رب عائلة من 5 أفراد) والمقصود هو الامتناع عن شرائها إلى حين أو التقليص إلى أقصى حد من الكمية المشتراة. ويضيف المتحدث ان من أول المواد «المُضحَى» بها لدى أغلب العائلات في المدة الاخيرة الأسماك ثم تلتها اللحوم الحمراء ثم الغلال واخيرا بعض الاصناف من الخضر ومشتقات الحليب خاصة الاجبان». أما عادل (موظف متزوج وأب لطفلين ) فيقول أن «أغلب العائلات أصبحت تعتمد بدرجة كبيرة على العجائن خلال الوجبات الرئيسية ومن حسن الحظ أن حليب الشراب لم ترتفع أسعاره وإلا لوجدنا صعوبات أخرى في تغذية الأطفال». نزر قليل من ناحيته قال الهادي (موظف وأب لثلاثة أبناء) أنه « مع ارتفاع اسعار الخضر واللحوم والاسماك والغلال، خفضت أغلب العائلات من مقتنياتها الأسبوعية من هذه المواد إلى حد أدنى». لكن كيف يمكن لتلك الكميات القليلة أن تكفي لسد حاجيات عائلة كاملة طيلة أسبوع ؟ يجيب محدثنا الهادي عن هذا السؤال بالقول أن ربة البيت «أصبحت مضطرة لتوزيع تلك الكمية الصغرى على وجبات كامل الاسبوع فأصبحت الوجبة العائلية الواحدة لا تحتوي إلا النزر القليل من الخضر واللحوم او الأسماك يتقاسمه كل أفراد العائلة بكميات أقل من التي تعودوا عليها في السابق، وفي المقابل هناك إكثار من تناول العجائن والخبز وهو ما قد يتسبب لنا في نقص التغذية مع تقدم الايام». وتضرب ربة بيت في ذلك مثل الخضر الشتوية المختلفة(على غرار السفنارية واللفت والسلق والبسباس والكرنب والبروكلو والجلبان والقنارية. .) التي « كانت تتواجد باستمرار وبكميات كبيرة داخل المطبخ طيلة الاسبوع فضلا عن اللحوم الحمراء والدواجن والأسماك بما أن أسعارها كانت معقولة مما يسمح للعائلات المتوسطة والفقيرة بإعداد أكلات متنوعة وصحيّة. » أما اليوم فإن حضور هذه المواد داخل المطبخ يكون – على حد قولها - بكميات قليلة « قد لا تكفي لإعداد أكلات صحية ومتوازنة لكل أفراد عائلتي المتكونة من 6 أفراد مما يقلص كثيرا من القيمة الغذائية لوجباتنا ويهددنا بالمرض لا قدر الله». أسعار... ومنافع هل ان غلاء أسعار أغلب المواد الغذائية يمكن ان يؤدي إلى نقص في التغذية ؟ عن هذا السؤال يجيب الاخصائي في التغذية السيد الطاهر الغربي أنه لا داعي لمثل هذه المخاوف. ويضيف المتحدث «لا بد ان تحصل قناعة في ذهن كل مستهلك عندما يدخل السوق بأنه لا وجود لأية علاقة بين سعر أية مادة غذائية وقيمتها الصحية. فمواد عديدة أسعارها شعبية وفي متناول الجميع لكن قيمتها الغذائية مرتفعة ولا مجال لمقارنتها بأخرى باهظة الثمن. من ذلك مثلا سمك السردين (بما في ذلك المُصبرة) او الغزال أو الشورو.. يفوق في قيمته الغذائية بكثير سمك المناني أو القاروص أو الورقة، وكل ما في الامر هو اختلاف نظري في المذاق أو النكهة». ومن جهة أخرى، تحدث الغربي عن الغلال وقال أنه مثلا بالنسبة للبرتقال فان كل الانواع تحتوي على القيمة والتركيبة الغذائية نفسها وبالتالي فانه يمكن الحصول على المنافع نفسها سواء تناولنا الطُمسون أو المالطي او السّقصلي أو برتقال العصير وهو الاقل سعرا. وهذه الملاحظة صالحة أيضا بالنسبة للأصناف الاخرى من الغلال التي تختلف فيها الاسعار حسب الحجم والمذاق لكن المنفعة الغذائية نفسها. مشكل اللحوم الحمراء بالنسبة للحوم الحمراء التي أصبح اغلب المستهلكين عاجزين عن شرائها بسبب ارتفاع اسعارها، يقول الطاهر الغربي أنه لا خوف من عدم تناولها لمدة طويلة لأن البروتينات الحيوانية والمنافع الغذائية الموجودة فيها متوفرة أيضا في بقية اصناف اللحوم ( الدجاج والارنب) وفي الحليب والبيض التي نستهلكها بشكل يومي ولا خوف من ذلك، عكس اللحوم الحمراء التي قد يؤدي استهلاكها اليومي إلى مخاطر صحية. كما أن بعض منافع اللحوم الحمراء موجودة بامتياز في البقول الجافة (الفول العدس الحمص اللوبية..) لكن للأسف هذه المواد لا تحضر بكثرة في وجبات التونسيين رغم اسعارها المعقولة نسبيا. وبالنسبة الى مشتقات الحليب باهظة الثمن يقول المتحدث أنه يمكن الاكتفاء بالنسبة الى الأطفال بالعادية منها التي لم ترتفع أسعارها كثيرا مثل حليب الشراب و الياغرت العادي والزبدة والجبن العادي، وكلها لها نفس القيمة الغذائية الموجودة في الاصناف المتميزة من المواد نفسها (مثلا ياغرت الشراب). ثقافة غذائية ينصح أخصائي التغذية الطاهر الغربي المستهلك التونسي بضرورة التحلي بثقافة غذائية عند التسوق وعند اعداد وجبات الغذاء، فبذلك يمكنه تفادي غلاء الاسعار وتفادي النقص في التغذية. ويقول أن اللجوء للعجائن باستمرار (بحكم انخفاض أسعارها) أو مقاطعة بعض المواد تماما ليست حلولا محبذة من الناحية الصحية بل لا بد أن يكون التحكم في الميزانية العائلية بالتوازي مع ضمان الحد الادنى من الغذاء الصحي. من يأخذ بيد المستهلك؟؟ يطرح ما قاله الطاهرالغربي نقاط استفهام عديدة حول الطرف الذي من المفروض أن يساعد المستهلك على التحلي بالثقافة الغذائية. إذ لم يسبق في تونس أن تقدم هيكل رسمي (على غرار منظمة الدفاع عن المستهلك او معهد التغذية أو معهد الاستهلاك أو وزارتي الصحة والتجارة) بنصائح أو ارشادات للمواطن حول الغذاء الصحي دون السقوط في نفقات مرتفعة على غرار ما هو معمول به في الدول المتقدمة، حيث تقدم هذه الهياكل على مدار العام عبر خبراء في الاقتصاد والتغذية نصائح حول ما يعرف لديهم ب«الوجبة المتكاملة بأقل التكاليف» ( menu à petit prix). وأكيد أن الهياكل المذكورة مطالبة اليوم بالتحرك في هذا الاتجاه وعدم الاكتفاء فقط بتقديم النصائح السطحية والارشادات الفضفاضة.