قال صاحبي : مازلت متشوقا إلى معرفة أسباب خوف المواطنين من التنصيص في الدستور على اعتبار الشريعة مصدرا أساسيا من مصادر التشريع. وأود أن تحدثني عن الأسباب ذات البعد المعرفي الإسلامي، وليست الأسباب السياسية ؟ قلت : من الصعب الفصل بين الأسباب المعرفية والأسباب السياسية، إذ أن التشريع قد وظف بالأمس في كثير من الحالات لخدمة السلطة السياسية، كما يحاول البعض توظيفه اليوم لنفس الأهداف كما سنرى. وأقول لك بداية : إنني اكتشفت في أكثر من مناسبة أن كثيرا ممن يتحدثون عن الشريعة غير مدركين جيدا لهذا المفهوم، وكيف نشأ وتطور بتطور المجتمع العربي الإسلامي. إن هذا الحيز لا يسمح بالتوسع في الموضوع، وأكتفي بالملاحظات السريعة التالية : يقول القدامى من علماء المسلمين «الدين واحد والشريعة مختلفة»، وأضيف بل هي في بعض الحالات متناقضة، فلا ننسى أنها اجتهادات بشرية، في فهم النص المؤسس : القرآن، وتأويله، وكذلك فهم مقاصد السنة النبوية الثابتة، وقد امتدت هذه الاجتهادات أربعة عشر قرنا. المقصود «بالدين واحد» قواعد الإسلام الخمس، وليس حولها اختلاف يذكر، أما الجانب الضخم والمتنوع في الشريعة فهوما يتصل بتنظيم حياة الناس، وحياة المجتمع، وهوما يسميه القدامى فقه المعاملات، فالشريعة هي تلك المدونة الثرية التي بدأت نصوصها المقاصدية والفقهية التفصيلية تكتب ابتداء من القرن الثاني للهجرة حتى اليوم، فهي إذن آلاف من المصنفات كتبها آلاف من علماء الإسلام، انطلق المجتهدون منهم من النصين المؤسسين : القرآن والسنة، ولكنهم اجتهدوا في ذلك اجتهادات متنوعة، ومن هنا قيل «الشريعة مختلفة»، وقد خضعت هذه الاجتهادات لصعوبات معرفية من جهة، وإلى ضغوطات السلطة السياسية من جهة أخرى. قال صاحبي : يمكن أن تذكر نماذج من هذه الصعوبات ؟ قلت: من الصعوبات الكبرى التي اعترضت سبيل علماء الشريعة في مرحلة التدوين الأحاديث الموضوعة، وهي تعد بالمآت، إن لم نقل بالآلاف، وقد وضعت لخدمة السلطة السياسية. جاء في رواية أن النبي ے قال : «الأمناء ثلاثة:«جبريل وأنا ومعاوية»، وجاء في رواية أخرى أنه قال : «إذا رأيتم معاوية يطلب الإمارة فاضربوه بالسيف»، والأمثلة كثيرة من هذا النوع، بل ظهرت فئة من العلماء كانت مهمتها الأساسية التنظير للخلافة، والإمامة، والإمارة، وجاؤوا بأحاديث موضوعة مثل «من قام بالخلافة ثلاثة أيام لم يدخل النار»، ونحن نعرف أن الإسلام ترك المسلمين أحرارا لاختيار النظام السياسي الذي ينسجم مع زمانهم ومصالحهم، فمصطلح الخلافة والإمامة وغيرهما لا علاقة لهما بالإسلام فهما من نصوص الشريعة التي وظفت لخدمة السلطة السياسية. أحيانا تكون الأحاديث صحيحة لكنها تؤول حسب المصلحة السياسية. قتل الصحابي الجليل عمار بن ياسر في حرب صفين، وكان في صف الإمام علي، ولما قتل جيء برأسه لمعاوية، وكان في مجلسه عمروبن العاص فقال سمعت رسول الله يقول : «تقتله الفئة الباغية» (أشك في صحة هذا الحديث)، فقال معاوية : الفئة الباغية ليست نحن، وإنما من جاءت به إلى المعركة !! وألاحظ أن القدامى كانوا أمناء، وسجلوا لنا كل هذه الروايات، ولم يحاولوا إخفاء الحقيقة التاريخية كما يفعل بعض الدعاة اليوم. قال صاحبي : كانوا ينظرون للسلطة الاستبدادية حسب كلامك ؟ نعم، هؤلاء ينعتون بفقهاء البلاط، ولكن وجد بجانبهم فقهاء المسجد، وهم الذين قاوموا الظلم منذ الانتفاضة الشعبية في المدينة ضد الخليفة الثالث عثمان بن عفان (ر.) إلى علماء الأزهر الذين التحموا في ميدان التحرير بثورة الشعب المصري في نفس الوقت الذي صدرت فتوى من الأزهر تحرم التظاهر لإسقاط النظام !! ألمعت قبل قليل إلى الصعوبات المعرفية، وأريد أن أضيف: إن علماء الإسلام قد تفطنوا إلى هذه الصعوبات فأسسوا العلوم القرآنية، كما أسسوا علوما خاصة بالحديث النبوي، وبالرغم من ذلك لم يتمكنوا من حل بعض القضايا التي بقيت مطروحة على الفكر الإسلامي إلى اليوم، ولا ننسى التلميح في هذا الصدد إلى أن الإبداع في الحضارة العربية الإسلامية قد دخل مرحلة الأفول بتدهور المدينة الإسلامية منذ القرن السادس الهجري، وبدأت مرحلة التدهور منذ ذلك الزمن البعيد، فانقطع السند المعرفي، وبدأ عصر الشروح والحواشي في الثقافة الإسلامية، وما برز هنا أوهناك من ومضات تجديدية فهي تمثل حالات استثنائية لا تندرج ضمن مسيرة تجديدية شاملة، كما كان الشأن في القرنين الثالث والرابع للهجرة. وعندما نعود إلى المنظومة التشريعية الإسلامية التي وصلتنا فيما هومعروف لدينا من نصوص لا بد أن نتساءل عما تتضمنه آلاف المصنفات التي ما تزال مخطوطات في رفوف المكتبات العالمية شرقا وغربا. من أدرانا أن بعضها لا ينسف ما نعرفه من اجتهادات وأحكام ؟ قال صاحبي : هذا يؤكد لي صواب الرأي القائل : إنه من الضروري أن يترك الخوض في هذه المسائل العلمية المعقدة لأهل الاختصاص، أما ما نراه اليوم أن كل من هب ودبّ أصبح يتصدر للإفتاء، فهوإساءة إلى الإسلام، وإلى علمائه، فقد سمعت أكثر من مرة من يستشهد بآيات قرآنية محرفة، وبحكم عربية قديمة على أنها أحاديث نبوية !!