المتحدث الرسمي باسم حركة «كفاية» المصرية. وصف الإسلام «بنظام الحياة» و «الشمول» و «الاستيعاب» صحيح إجمالاً ، لكنه ينطوي على جملة مآزق ، لعل أظهرها ذلك التناقض الذي يثار بين العقيدة او الأيديولوجيا الإسلامية الدينية من جهة ، وبين العقائد أو الأيديولوجيات البشرية الوضعية من جهة أخرى ، فالأيديولوجيات البشرية توضع أيضاً كنظام للحياة مع اختلاف في درجات شمولها واستيعابها. ومن ثم ، وضعت الناصرية - مثلاً - كأيديولوجيا وضعية فى قفص الاتهام الديني ، ووصفت بأنها «جاهلية جديدة». وصفها سيد قطب مفكر «الإخوان» بأنها كذلك ، وكان سيد قطب يؤكد في كتابه (معالم على الطريق) أن الحكم لله وحده ، وأن عقيدة الإسلام لا تتحقق بمجرد العبادات ، وأن طاعة الله مطلوبة في شئون الحياة كافة ، وكل ذلك صحيح ، لكنه يضيف و «أن أي تشريع أو إيديولوجيا يضعها البشر تعني الشرك بالله». وسيد قطب ليس وحده في اتهام الناصرية وغيرها ، إنه مجرد رمز متطرف على آراء الحركات الموصوفة بالإسلامية في بلادنا ، ويلزم لرد الاتهام بالجاهلية أو كفر الأيديولوجيات الوضعية ، أن نرد الأمر إلى أصوله. نعود أولاً إلى «دولة المدينة» ، وهي دولة قادها نبي يوحى إليه ، وامتزج فيها معنى السلطة الدينية بالسلطة الدنيوية ، رغمها نجد استقلالاً نسبياً لمعنى السياسة عن معنى الدين ، كان الوحي القرآني ينزل على النبي منظماً أمور المعاملات وقضايا التشريع المحضة ، وتلك ميزة تفرق بين القرآن المدني والقرآن المكي الذي اقتصر على الاعتقاد التعبدي ، وفي الوقت نفسه طالب القرآن رسوله أن يشاور شعبه في شئون الحرب والسياسة ، إذن وجد مصدر إلهى صاغ جمله من قضايا التشريع الاجتماعي ، وقام إلى جواره مصدر بشري «وضعي» حث عليه القرآن ، كما في قوله تعالى {وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله} (آل عمران من الآية 159) ، وفي كتب السيرة النبوية نقرأ عشرات القصص نزل فيها النبي على أمر أتباعه رغم مخالفتهم لرأيه ، أخذ النبي برأي أتباعه في قصة حفر خندق حول المدينة في غزوة الأحزاب ، وفي اختيار موقع نزول الجيش في غزوة بدر ، وفي تلك المواقف وأشباهها كان الرسول يضع حدوداً للتمييز بين ماهو ديني محض وما هو أدخل في باب الدنيا سياسة وحرباً ، وكان الرسول يقول «ما كان من أمر دينكم فإلي ، وما كان في أمر دنياكم فأنتم أعلم به» ، ويقول «أنتم أعلم بأمور دنياكم» ، فليس الحكم والقضاء والسياسة ديناً وشرعاً وبلاغاً يجب فيها التآسي والاحتذاء بما في سنة الرسول من وقائع وتطبيقات على إطلاقها ، ويختلف الأمر فيما هو دين من سنة الرسول سواء ما تعلق منها بتطبيق الوحي القرآني أو الأحاديث المتواترة قطعية الورود قطعية الدلالة. وبعد دولة المدينة ، ونهاية الجمع بين السلطتين الدينية والسياسية في شخص الرسول ، أصبحت سلطة الخلافة الراشدة مدنية محضة ، وزادت رقعة التمييز في السياسة عن الدين ، بل أقدم الخلفاء والصحابة على تصرفات بالسياسة تناقض ما كان يفعله النبي نفسه ، فقد اتفق الصحابة على عهدي أبي بكر وعمر على تعديل توزيع «خمس الغنيمة» ، كان خمس الغنيمة وقت الغزوات والفتوحات يمثل مورداً مالياً هاماً للدولة الإسلامية الناشئة ، وكان الرسول يقوم بتوزيع خمس الغنيمة على خمسة أسهم : لله وللرسول سهم ، ولقرابة الرسول سهم ، ولليتامى سهم ، ولأبناء السبيل سهم ، وللمساكين سهم خامس ، وكان التوزيع في عهد النبي يتم على أمر ديني واضح ورد بنص القرآن ، ولم يمنع ذلك الصحابة من تعديل نظام التوزيع عملاً بتغير الظروف ، وتم إلغاء سهمي الرسول وقرابته ووضعا في الخزانة العامة وخصصا لنفقات الحرب والدفاع ، واقتصر التوزيع على أسهم اليتامى والمساكين وأبناء السبيل. وحين حدثت الفتنة الكبرى ، وتفرقت جماعة المسلمين شيعاً في صراعات المجتمع والسياسة ، ظل تقليد التمييز بين ما هو دين وما هو سياسة حاضراً حتى لدى المسلمين الذين رجحت الكفة ضدهم ، ويصف الثائر العظيم علي بن أبي طالب قتاله مع أنصار معاوية في معركة «صفين» بقوله «لقد التقينا ، وربنا واحد ونبينا واحد ، ودعوتنا إلى الإسلام واحدة» ، ولم يحد عن ذلك الفهم الصافي المميز بين السياسة والدين غير الخوارج ، فهم الذين ابتدعوا أسطورة «الفرقة الناجية» ، وأضاعوا الحدود بين الدين والسياسة ، وجعلوا حروب السياسة بين المسلمين حروباً دينية بين الناجين والهالكين ، وقال زعيمهم «الخريت بن راشد الناجى» لعلي بن أبي طالب : «لاأطيع أمرك ، ولا أصلي خلفك ، وإني غداً لمفارقك لأنك حكمت في الكتاب». حدث ذلك بعد ظهور نتائج التحكيم في معركة «صفين» ، وهي قصة سياسية محضة ، لكن الخوارج جعلوا من خلافهم السياسي خلافاً دينياً ، وجعلوا غيرهم من المسلمين «أهل جاهلية» ، ومن مجتمعهم مجتمعاً جاهلياً كافراً ، واعتبروا دار أغلب المسلمين دار حرب ، ودعوا إلى «مفاصلتهم عند العجز وقتالهم عند القدرة» تماماً كما تفعل جماعات المفاصلة «الإسلامية» هذه الأيام. ولا نريد ان نذهب - كما يذهب البعض - إلى أنه ليست هناك البتة إيديولوجيا إسلامية تلزم المسلم ، بل هناك أيديولوجيا وشرع ونظام إسلامي بالفعل ، لكن المهم أن نتبين حدودها حتى لا نضل الطريق القويم ، فالإسلام عقيدة التوحيد وتنزيه الله عن التشبيه أو التثليث ، وهناك العبادات وأركان الإسلام الخمسة التي يتحدد بها إيمان المسلم وجماعة المسلمين ، ثم هناك الشريعة التي أتت بها الآيات «المحكمات» في القرآن لا «المتشابهات» القابلات للتأويل ، وتكمل الشريعة أحاديث الرسول - شرط أن تكون متواترة قطعية الورود قطعية الدلالة ، وبين آيات القرآن الكريم كلها - ستة آلاف آية - مائتي آية فقط تتضمن أحكاماً في التشريع المجتمعي ، أما السنة النبوية التي توصف بالمتواترة فيلزم فيها قول الفقهاء «نقل الكافة عن الكافة» ، وأغلب علماء الأصول ينكرون أن في السنة - عدا ما يتعلق بالعبادات - أحاديث متواترة ، ويقول الراحل الشيخ محمد سعاد جلال : «إن الأحاديث المتواترة ، حتى وإن كانت قطعية الثبوت ليست قطعية الدلالة ، وربما داخلها الظن من جهة الدلالة ، فانتفت قطعيتها من هذه الجهة وهنا تصبح السنة كلها مجالاً للاجتهاد وإمكان تطوير الأحكام التشريعية». وآياً ما كان الأمر ، فإن معنى الشريعة الملزمة أو النظام الإسلامى الملزم يدور في نطاق محدد ، أنه نطاق ماهو قطعي الدلالة في أحكام القرآن ، وقطعي الورود والدلالة من أحاديث الرسول ، ولا يدخل في باب الشريعة الملزمة - او باب الشريعة إجمالاً - اجتهادات المدارس الفقهية الكبرى لدى السنة أو الشيعة ، والفقه كله «وضعي» تداخله اعتبارات المكان والزمان والنوايا والعقول ، وقد توقف الاجتهاد الفقهي كله في القرن الرابع الهجري بأمر من الخليفة العباسي المستعصم ، وهو ما رتب للفكر الفقهي - بالتقادم - غربة عن أوضاعنا بعد عشرة قرون وتزيد. جملة القول : إن فى الإسلام - شريعة ونظاماً - دائرتين متداخلتين : دائرة الشمول التوجيهي ودائرة الشمول الإلزامي ، الشمول الإلزامي مقيد بالنص ، والشمول التوجيهي مفتوح على متغيرات الزمن والظروف ، فالاستقلال - فيما لم يرد فيه نص - هو الصيغة الحاكمة لعلاقات الشريعة بالسياسة ، والتفكير الوضعي له سوابقه الممتدة في التاريخ الإسلامي فقهاً وسياسة ، ومن ثم تكون الأيديولوجيات الوضعية «غير جاهلية» ما دامت تتوافق مع كليات وضوابط الإيديولوجيا الإسلامية ، ولاغبار على مسلم يعتنق «أيديولوجيا وضعية» لا تتعارض مع نص ديني ملزم.