كانت الطائرة الرئاسية معلقة في الهواء تبحث كما قيل وقتهاعن مهبط لعائلة الهارب (او المهرّب) حين تجمع حولنا العشاق وانهالت علينا التهاني من كل حدب وصوب حتى من مثلث برمودا وبلاد الواق..
وتسابقت الوفود لزيارتنا تبشرنا بانهار من عسل مصفى ولبن لم يتغير طعمه ..وربما يكون من سوء حظنا ان لم نظل طويلا العروس المدللة اذ سرعان ما اصبح لنا ضرائر: مصر بعد عرسنا بايام ثم ليبيا واليمن والبحرين وسوريا ...لم يمنع ذلك من ان ترسل لنا الحكومات مبعوثيها وتستدعينا عواصم وخاصة من الغرب العزيز على قلوب الكثيرين من اهلنا ...«اكتشفوا» ان لدينا شخصيات يجب ان «تكرم» فنلنا نصيبنا من الجوائز العالمية (وهي كلها ليست بريئة شكلا ومضمونا) ...و«اكتشفوا» ان لدينا طاقات علمية وفكرية وسياسية وغيرها فوجهوا لهم الدعوات لزيارات «استطلاع» وندوات «تكوين» ...وفيما انصرفنا نحن الى الاقتتال حول جنس الملائكة كانت بلادنا تتعرض لهجمة طوفانية مما يسمى (منظمات المجتمع المدني) كلها تريد ان تقدم لنا «يد العون» وفي كل المجالات من الاعلام الى الديمقراطية الى العدالة الانتقالية الى الارضية المشتركة الى كتابة الدستور الخ ..وربما يصل الامر الى طريقة النوم حسب الفصول وما يجب ان نغرس من التوابل والبقول ...
يعرف البنك الدولي /وهو امريكي الهوية والهوى/منظمات المجتمع المدني بانها «تلك المنظومة واسعة النطاق من اتحادات العمل والمنظمات غير الحكومية والمجموعات القائمة على الاديان والمنظمات القائمة على المجتمعات في المجتمع المدني» ..وفي التعريف الرسمي الامريكي فان المنظمات غير الحكومية «تشمل منظمات مستقلة تدافع عن السياسة العامة ومنظمات لا تتوخى الربح تدافع عن حقوق الانسان وتروج للديمقراطية ومنظمات انسانية ومؤسسات وصناديق مالية خاصة وشركات ائتمان خيرية وجمعيات وشركات لا تتوخى الربح وهي لا تتضمن احزابا سياسية» ...هكذا ..اعمال كلها لوجهه تعالى تريد الخير للانسان ولا تنتظر جزاء ولا شكورا؟ (صدقوا ذلك)...هذا ما قالوه ..اما ما نعرفه من خلال ما نشر من وثائق، ومن اعترافات من استيقظ ضميره منهم، ومن خلال دراسة التاريخ ان الاستعمار بدا بالتبشير او «التمدين» (البريء جدا؟) الذي سبق المستكشفين كما سموا انفسهم ..وان دولا دمرت ونظما قلبت باستخدام اغطية العون الانسانية في امريكا اللاتينية وافريقيا واسيا وبعض الساحات العربية (وليس قتل سالفادور اللندي في الشيلي الا مثل واحد) ...وبما ان التدخل الحكومي والاستخباراتي المباشر قد تسبب في العديد من المشاكل بين العواصمالغربية والدول المستهدفة فقد تم اللجوء الى (المنظمات غير الحكومية) لتنفيذ الاجندات المطلوبة حتى اذا ما انكشف دورها لم يلحق الضرر الدول نفسها ..وفي 14 ديسمبر 2006 اصدر البيت الابيض بيانا تحت عنوان (مبادئ مرشدة بشان المنظمات غير الحكومية )وهو اشبه بالاوامر والتعليمات ...ملخص ماجاء فيه فرض حرية تشكيل المنظمات غير الحكومية والسماح لها بالعمل بحرية وبتلقي الدعم المالي وغيره من الداخل والخارج وعدم محاسبتها على تبادل ونقل المعلومات لنظيراتها في العالم ..ثم ضرورة تدخل «الدول الديمقراطية» للدفاع عنها ...باختصار فرض اقامة منظمات داخل الدول المستهدفة تعمل لحساب الجهات المموّلة(بكسر الواو) وتقدم لها ما تطلبه من معلومات وخدمات ...وحسب تسريبات ويكسليكس فان وزيرة الخارجية الحالية هيلاري كلينتون اقرت برنامجا للتمويل تحت مسمى (منح من الباطن) تقدم لهذه المنظمات أي اموال تخصص للمنظمات غير الحكومية لانفاقها فيما يخدم السياسات الامريكة..وقد تابعنا ما حصل في مصر قبل اسابيع عندما كشف القضاء عمالة بعض المصريين وتجسس امريكيين عبر مثل هذه المنظمات فهددت كلينتون نفسها بقطع المساعدة عن مصر/حبا لشعب مصر؟/ اذا ما لم يطلق سراح المعتقلين ورضخت القاهرة.
الحديث في هذا الموضوع يطول ...ومانراه في تونس ان المنظمات اصبحت اكثر من هموم الشعب ولاحسيب ولا رقيب بل ربما «ارتياح» لهذا الحب الصافي ولهذه الاموال تغدق علينا ونستلمها سواء عن جهل او عن علم بما وراء الاكمة ..وآخرها فرح رئيس الجمهورية بعودة «فيلق السلام الامريكي» للعمل في تونس.اختم بما قاله عميل سابق للمخابرات الامريكية ان اول درس يتعلمونه هو ان (الحكومة الامريكية ليست مؤسسة خيرية) .وبان ما تفعله امريكا تقوم به دول اخرى مثل بريطانيا وفرنسا وغيرهما.كما اذكّر بحدثين في تاريخنا الاسلامي : اولهما مسجد الضرار الذي بناه المنافقون ( تقربا لله ايضا ؟ ) وامر الله نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم بهدمه .وهذه المنظمات الا القليل منها ضرار في ضرار.والحدث الثاني ماحدث في غزوة أُحُد عندما ترك الرماة مواقع الدفاع في الجبل وهرعوا الى الغنائم فكانت الخيبة والحسرة ..اقول ذلك لانه يبدو اننا قد تركنا موقع حماية الوطن وتعزيز مكانته ومكاسبه وهرعنا الى الغنيمة نقتتل حولها ..فيما ينخر السوس جسد بلدنا بخطة عنكبوتية جهنمية اسمها المنظمات غير الحكومية نمد لها الايدي ونتسابق لودها ولدولاراتها والجماهير مدوّخة لاتجد حتى الوقت لترى وتفرز الخبيث من الطيب ..والخطر الا نستبين النصح الا بعد ضحى الغد عندما يفوت الاوان وينغرز الخنجر المسموم في الجسد .