شرع المجلس الوطني التأسيسي في مستوى اللجان في مناقشة مشروع تنقيح قانون تنظيم الحياة السياسية، تقدمت به كتلة المؤتمر من اجل الجمهورية لإقصاء كل أعضاء الحكومات التي عملت مع بن علي وكل من تحمل مسؤولية قيادية في التجمع المنحل من عضوية الديوان السياسي إلى رئاسة الشعب الدستورية مرورا بعضوية اللجنة المركزية ولجان التنسيق والجامعات. المشروع هو احياء للفصل 15 الذي صاغته الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة تحفظت عليه بعض الأطراف ومنها النهضة التي اكد رئيسها الأستاذ راشد الغنوشي انه كان يتمنى هزم التجمع والتجمعيين عبر صناديق الاقتراع، وكان الإجماع حاصلا على أن يكون مفعوله مقتصرا على انتخابات المجلس التأسيسي فحسب وهو ما يفسر عدم إدراج أي إشارة إلى منع التجمعيين من العمل السياسي في قانون الأحزاب الذي أعدته الهيئة وصادقت عليه حكومة السبسي.
والسياق القديم الجديد طرح عدّة أسئلة للحيرة ، من أبرزها: ماذا تغير ليعود الحديث عن هذا الفصل الذي اعتبره التجمعيون «تصفية عرقية» قد تدفع البلاد نحو أزمة عميقة؟ هل هو الخوف من نجاح بعض الأحزاب المنحدرة من التجمع المنحل في إعادة تجميع نفسها في إطار العائلة الدستورية التي عادت إلى الأضواء؟ هل هو الرد على مبادرة نداء الوطن التي أطلقها الباجي قايد السبسي الذي يُعتبر من الأطراف الفاعلة في تجميع الدساترة وضمهم إلى جبهة تكون قادرة على مواجهة النهضة انتخابيا؟
هل هي خطوة استباقية من الترويكا ردا على ما قد يكون بوادر تغير في بعض المواقف الدولية التي لم تقدر «خطورة» قرار حل التجمع ومنع التجمعيين من الترشح للتأسيسي والذي أدى إلى إفراغ الساحة السياسية من قوة منافسة للنهضة بعد أن فشلت التشكيلات الأخرى التي ناضلت ضد بن علي او التي نشأت بعد الثورة في فرض شعبيتها؟.
الشارع التونسي لا يبدو معنيا كثيرا بهذا الموضوع الذي لم يعد يثير حماس قطاعات واسعة من الشعب أصيبت بخيبة امل من النخبة السياسية التي برزت بعد الثورة ولم تقدم إلى حد الآن أي برهان عن جدارتها بتجريم التجمعيين.
اللافت للانتباه ان الكتلة التي تقدمت بالمشروع تعيش أزمة عميقة على خلفية اتهامات متبادلة بعد انشقاق كثير من نوابها بلغت حد الاتهام بالفساد والمحسوبية و»الزبونيّة» حلى حدّ عبارة السيّد عبد الرؤوف العيادي ، وهو ما يطرح سؤالا بديهيا عن المشروعية الأخلاقية والسياسية التي تمتلكها هذه المجموعة لتبني قانون لتطهير الحياة السياسية من ممارسات تتهم هي بها؟ وعلاقة هذه الخطوة بحاجة ما بقي من حزب المؤتمر إلى معركة تغطي على مشاكله الداخلية وتحفظ له جزءا من مصداقيته؟.
الفصل 15 في شكله القديم يحتاج إلى قراءة معمقة لأسبابه وخفاياه والجهات التي خططت له ودفعت به إلى الواجهة، وأغلب الظن انه لم يكن مجرد تنازل لضغط الشارع او للقوى اليسارية وإنما رؤية كاملة لتشجيع قيادة جديدة لتونس سقط الرهان عليها في الماء. وهو ما يطرح جملة من الأسئلة الأخرى التي تحتاج فعلا إلى أجوبة دقيقة:
هل كان الباجي قايد السبسي مُجبرا فعلا على المصادقة على القانون؟. هل كان عياض بن عاشور رئيس الهيئة مجبرا على الدفاع عنه بشراسة إلى حد دعوة التجمعيين إلى الهدوء وتقديم الشكر للشعب لأنه لم يعلق لهم المشانق؟. لماذا باركت القوى الخارجية الموضوع ولم تتحرك لا رسميا ولا منظماتيا لإسقاطه؟. من كان يقف حقيقة وراء الفصل 15 من القانون الانتخابي للمجلس الوطني التأسيسي؟.
الآن الظروف تغيرت بعد أن أدرك كل طرف سياسي حجمه وبات السؤال المطروح هو هل سيكون متاحا للنهضة إعادة سيناريو التجمع والهيمنة على الحياة السياسية لعقود قادمة في غياب قوة سياسية موازية لها؟ النهضة التي استفادت من إقصاء التجمعيين الذين صوتوا لها بكثافة لمعاقبة القوى الأخرى أو تشتت أصواتهم بين قائماتهم المتصارعة، تبدو مدعوة إلى الانتباه إلى خطورة هذا الموضوع الذي قد يؤدي إلى اصطفافهم هذه المرة وراء خصومها وتشكيل جبهة لا رابط بينها الا الرغبة في إسقاط النهضة مهما كان الثمن.
رغم الصعوبات التي تمر بها حكومة الجبالي إلا أن النهضة لا تبدو في وضع مزعج من جهة شعبيتها ونجاحها في كسب المزيد من التأييد في الداخل والخارج وهي بالتالي لا تحتاج بحسب عارفين بالوضع السياسي العام في البلاد وبوادر التحسّن الأمني والاقتصادي والاجتماعي إلى مثل هذا القانون للحفاظ على حظوظها في الانتخابات القادمة، بل على العكس فالجدل الذي سيرافقه سيشوش على عمل الحكومة وسيضفي المزيد من الشك على الانتخابات القادمة وحقيقة وزن كل طرف ما لم يتعرف الشعب على الوزن الحقيقي للتجمعيين وهل تأثروا فعلا بخروجهم من الحكم ؟.
من البديهي ان يحرم كل مواطن تورط في الفساد وثبتت إدانته قضائيا من العمل السياسي وسيكون من العبث والاستخفاف بأرواح شهداء الثورة وأجيال المناضلين ضد الدكتاتورية السماح للمورطين في جرائم النظام السابق بالعودة إلى الحياة السياسية وتقرير مصير البلاد والعباد ، ولكن ذلك يجب أن يتم عبر القضاء سواء العادي أو الانتقالي وبعيدا عن ضغط الشارع.
تونس تحتاج إلى مصالحة بين أبنائها، مصالحة لن تكون ممكنة في ظل قوانين المنع والإقصاء والعقاب الجماعي التي لا تكرس الا الحقد والضغينة ولا تساعد على تأسيس مجتمع ديمقراطي متوازن.