كآنّ أدباء ومبدعي العراق كانوا أمام امتحان تاريخي عسير، إذ أن عدد ضحايا أبناء الشعب الذي ينتمون إليه يتزايد مع كل فترة سياسية يدخلونها، ففي الفترة الملكية جرى تنفيذ أحكام الاعدام بثلاثة من قادة الحزب الشيوعي واكتظت السجون بمعارضي النظام من يساريين وديمقراطيين وقوميين. كما كان قتل العائلة المالكة بداية العهد الجمهوري والذي صاحبه قتل رئيس الوزراء نوري السعيد والوصي على العرش عبد الإله وصدور أحكام بأعدام عدد من المسؤولين جرى تنفيذ بعضها.
وفي الانقلابات الجمهورية كان هناك دائما ضحايا وأولهم عبد الكريم قاسم زعيم ثورة 14 تموز (جويلية) 1958 ثم التصفيات داخل الحزب الحاكم منذ عام 1968 والألوف الذين حصدتهم حرب الشمال بين الدولة المركزية والأكراد دخولا في متاهة الموت المسماة: «الحرب العراقية الايرانية» وما تلاها من أحداث عارمة وحارقة كدخول الكويت والخروج منه بذلك الشكل الذي لم يغادر الذاكرة بواسطة تحالف قادته أمريكا وشاركت فيه عدة بلدان عربية. ومرورا بسنوات الحصاد وتحول العراقيين إلى لاجئين حتى في بلاد «الأسكيمو» عدا كندا وأستراليا والبلدان الاسكندنافية واليمن وليبيا والسودان والامارات العربية المتحدة وسلطنة عمان وبلدان أخرى.
ومن الواضح لي ان هذه الأحداث الجسام التي لم يعرفها شعب عربي من قبل عدا الشعب الفلسطيني لا نجدها في أعمال أدبية وروائية بالتحديد، حجمها بحجم هذه الأحداث، أقول هذا في حدود ما قرأت وما تابعت، كأن فداحة الأحداث أكبر من الكتابة، وكأن كوابيسها مازالت تجثم على الصدور وتخنق الأنفاس، أو كأن الأدباء ما إن يصحوا من كابوس حتى يغرقوا بكابوس أكبر منه. فمن ذهب به تفكيره وخياله بعيدا ليتصور مجرد تصور أن هذا البلد المترامي الذي صمد في وجه كل الكوارث التي مرت به على امتداد تاريخه من الممكن أن يذهب ضحية خيال رئيس مختل وجد نفسه في بيت أمريكا الأبيض وبأن ربه قد أوحى له باحتلال العراق. فكانت تلك مأساة ما بعدها مأساة. نقول هذا رغم ان الوطنيين العراقيين لم يكونوا يعدمون وسيلة لتغيير نظام الحكم الذي كان قائما ما دام هذا الحكم قد فقد بوصلته وصغرت الدائرة حول الحاكم فلم يعد يأمن أحدا، وتلك حكاية معروفة.
ظهرت روايات ما بعد الاحتلال وربما كانت باكورتها «الحفيدة الأمريكية» لأنعام كججي، و«سوق مريدي» لقاسم حول الذي دفع للنشر برواية ثانية عن الاحتلال عنوانها «على أبواب بغداد»، وربما هناك روايات أخرى كتبت ولم تجد فرصة النشر بعد، لكن هناك عددا من القصص القصيرة التي احتضنتها صحف ومجلات الداخل والخارج وخاصة بعد مغادرة قوات الاحتلال الأمريكي للعراق.
ثم أهدتني الكاتبة العراقية المقيمة في بيروت رشا فاضل روايتها «على شفا جسد» عند زيارتها لتونس أخيرا وهي رواية عن الاحتلال مازلت أواصل قراءتها ومن وحي تجربتها في العمل مع الصليب الأحمر لايصال رسائل المعتقلين في السجون التي أوجدها الأمريكان إلى أسرهم في المدن التي تقع وسط العراق (تكريت بيجي الدور) وهي رواية حائزة على جائزة الرواية من مجلة دبي الاماراتية.
ثم وصلني من الروائي العراقي المقيم في ألمانيا برهان شادي روايتان طبعتا في بيروت، وقد أكملت قراءة أولاهما وعنوانها «مشرحة بغداد» وهي رواية يحس قارئها وكأنه أمام فيلم رعب من الطراز النادر والذي لم تصل إليه حتى مخيلة عميد أفلام الرعب هيتشكوك.
ويبدو ان برهان الشاوي كان أحد الذين عادوا إلى العراق بعد الاحتلال، إذ أنهم كانوا من معارضي نظام الحكم الذي أطاح به الأمريكان، ولكنه لم يواصل البقاء هناك بعد أن رأى ما رأى واختار العودة إلى منفاه، كما أن بعض العراقيين ونظرا لاقامتهم الطويلة خارج وطنهم فإنهم قد أصبحت لهم حياتهم وأصبحت العودة للعراق لزيارته فقط وتفقد أسرهم وأصدقائهم.
لا أدري كيف خطر ببال برهان شاوي أن يجعل من «بيت الموتى» المسمى «مشرحة بغداد» مكانا لروايته هذه أو أن هذه المشرحة لم تغب عن الأخبار في سنوات الاحتلال الأولى يوم كان ضحايا القصف والمتفجرات والاقتتال الطائفي ينقلون إليها حتى يأتي أحد من أسرهم ليتعرف عليهم، وهناك بشر صاروا مزقا بحيث يتعذر التعرف على هويات أصحابها.
لا ندري ان كانت مشرحة بغداد بالوصف الذي جاء في الرواية؟ أم ان الروائي وضع لها بناء متخيلا من خلال الشاب آدم الذي كان عاطلا عن العمل فلم يجد غير وظيفة حارس في «مشرحة الموتى» هذه، ومن خلال وجوده فيها فإنه يروي تفاصيل ما يجري يوميا. ولم تكن لآدم إلا أم وحيدة يزورها لماما ليعطيها جزءا من مرتبه الشهري، ويقدم الروائي لنا شخصية آدم بأنه مثقف يذهب كل يوم جمعة إلى شارع المتنبي الشهير ببغداد يشتري الكتب وليقتني الأقراص الليزرية التي تحوي أشهر الأفلام السينمائية.
لكن الروائي يحول روايته هذه إلى فانتازيا رعب وموت كان ضحيته الأولى آدما نفسه بحيث لم يعد يميز هل الأحياء هم الموتى؟ أم الموتى هم الأحياء؟ وذلك بعد ان يجعل الموتى يتكلمون ليروي كل منهم حكايته، وكيف قتل؟ ومن جاء به؟ فإذا بالروائي وقد نجح إلى حد كبير في صياغة عالم متكامل، وصل حدّ أن الموتى يغادرون المشرحة ويتوجهون نحو غرفة آدم التي أحكم غلقها عليه وصاروا ينادونه باسمه ويخبطون بأكفهم على الباب.
تقدم لنا الرواية عالما فاجعا إذ كل ضحية حكاية، كما تقدم لنا نماذج من الوصوليين الذين تسللوا إلى المتن السياسي الجديد فصاروا أساسيين فيه، وقد كانوا من أكبر المنتفعين من العهد المطاح به.
ان هذه الرواية تؤكد لنا أن الرعب العراقي هو رعب ولود، ليس في الرواية فقط بل وفي الشعر أيضا واحدى ذراه ديوان «اكليل ورد على جثة بيانو» لجواد الحطاب مثلا. برواية «مشرحة بغداد» وروايات قليلة أخرى ولدت رواية عراقية مختلفة، وأؤكد على مختلفة هذه. مشرحة بغداد رواية لبرهان الشاوي منشورات الدار العربية للعلوم ناشرون بيروت 2012