أشرنا في الأسبوع السابق إلى أنّ عمل الكاتب الليبي الكبير خليفة محمد التليسي الموسوم ب«قصيدة البيت الواحد» الذي استلهمه أدونيس مثّل مشروع حياة التليسي فقد قضّى الرجل في جمع مادّته وتبويبه السنوات الطوال باحثا في المدوّنات القديمة والحديثة عن «الجواهر الرائعة التي لا تنتظر إلاّ أن تمتدّ إليها الأيدي لتعود حيّة من حيث تركيزها.. واعتمادها على اللمحة الخاطفة، والالتفاتة العابرة..» لكنّ هذا العمل لم يكن مجرّد جمع وتبويب بل حاول «أن يتميّز بأصالته وخصائصه ونظرته الخاصّة إلى هذه النماذج الجميلة من الشعر العربيّ» لهذا كانت هذه المختارات، كما يقرّ التليسي محكومة بدوافع ذاتيّة ترتدّ إلى تربيته الأدبيّة والفنّية والذوقيّة.. تعدّ المقدّمة التي صدّر بها التلّيسي مختاراته إضاءة مهمّة لمفهوم قصيدة البيت الواحد كما استتبّت مقوّماتها في النقدين القديم والحديث .فالتلّيسي ما فتئ يؤكّد أنّ قصيدة البيت الواحد «قصيدة مكتملة» «خلاصة الخلاصة» فلا نتوءات فيها ولا حواش ولا زوائد بلاغية متهدّلة.. الكلمة فيها «بحجم الانفعال وحجم الصوت الشعريّ فيها بحجم فم الشاعر وبحجم هواجسه..» فهذا النصّ إنّما هو ومضة خاطفة، ولمحة عابرة ودفقة وجدانيّة ولحن هارب وأغنية قصيرة.. يخلق تعبيره المكثّف المركّز الذي يستنفذ اللحظة الشعريّة ويحيط بها.. وما زاد عن ذلك فهو من عمل الصناعة والاحتراف لذلك كان الشاعر العربيّ في اعتماده على البيت الواحد أقرب إلى الفطرة الشعريّة والسليقة.. هذه المعاني ستترك ظلالها على مقدمة أدونيس وربّما وجدنا العبارات نفسها أو ما يرادفها تتردّد فيها..
وفي صفحات من النقد الرفيع سعى التلّيسي إلى تأصيل «قصيدة البيت الواحد» في التراث العربيّ فأبرز المكانة التي حظي بها البيت في المدوّنة النقديّة القديمة «فالحركة النقديّة حول الشعر، في نظره، إنّما ولدت ونشأت وتطوّرت بسبب ما فجّره البيت من صراع وخصام، فالمفاضلة بين الشعراء في القديم، إنّما اعتمدت على البيت الواحد..».
لكن ارتداد التلّيسي إلى الأبيات المفردة التي يعتبرها «قصائد كاملة مكتملة» لا يخفي أيّ حنين إلى الماضي.. فالرّجل يقرّ أنّه كان في كتابه يقرأ التراث انطلاقا من الحاضر، من ثقافته الشعريّة الحديثة.. فالناقد اللبيبيّ قد افتتن بنماذج من التجربة الشعريّة الجديدة التي تميّزت بالتركيز والتكثيف وتعقيل التجربة والإيجاز في التعبير عنها ويقول إنّه كان يكتب وديوان الشاعر الإيطاليّ الشهير «انغاريتي» أمامه.. وهذا الديوان الموسوم ب«حياة الإنسان» فيه ضروب من التكثيف والتركيز تتفاوت بين الوضوح والغموض.. بل فيه قصيدة ذات عنوان وتاريخ تتكوّن من كلمتين فقط.. نعم جملة من كلمتين فقط «أستضيء باللانهائي» فضلا عن شواهد أخرى تدخل في هذا الإطار. إنّ هذه الومضات شبّهتها فرجينا وولف بأعواد الثقاب التي تشتعل فجأة في الظلام.. فهذا الضرب من الشعر سمّاه عزرا باوند شعر الاستنارة وهو الشعر الذي ينجح في اقتناص صورة واحدة في سطر أو سطرين.. ويتجلّى هذا الضرب من الشعر أقوى ما يتجلّى في الشعر الياباني وبالتحديد في قصيدتي الهايكو والتانكا حيث تخفّ اللغة وتصبح قادرة على التعبير عن المعنى الأكثر في اللفظ الأقلّ.
لا أشكّ في أنّ أدونيس كان يكتب وكتاب التليّسي في ذاكرته أو أمام عينيه.. ولا نريد لضيق المساحة أن نورد فقرات من العملين، عمل التليسي وأدونيس للمقارنة والموازنة.. كما لا نريد، للسبب نفسه، أن نورد الأبيات المفردة التي تردّدت في كلا الكتابين.. لكنّ القارئ الذي اطلع على هذين العملين لابدّ من أن يتفطّن إلى أنّ كتاب أدونيس لم يكن إلاّ رجع صدى لكتاب التليسي.. بدءا من الفكرة التي قام عليها الكتاب وصولا إلى المختارات..
هذا التشابه لا ينبغي أن يخفي عنّا وجوه الاختلاف بين العملين ومن وجوه هذا الاختلاف: أنّ مختارات التليسي كانت أكثر شمولا واتّساعا.. فإذا كان أدونيس تجنّب اختيار قصائد من الشعر الحديث واكتفى بالوقوف على مشارف القرن العشرين تهيّبا أو بحثا عن سلامة موهومة فإنّ التلّيسي أورد نماذج من الشعر الجديد واحتفى على وجه الخصوص بتجربة أدونيس فأورد له بعض النصوص التي عدّها قصائد من بيت واحد كقوله :هذا الوطن.. زرع / والأيّام جرادة.. كما أورد في الجزء الثاني من روائعه نصوصا لبدر شاكر السياب ونازك الملائكة ونزار قباني.. ومن وجوه الاختلاف أيضا أنّ مشروع التلّيسي لم يكتف بالقصائد المفردة بل جمع أيضا الثنائيّات (القصائد التي تحتوي على بيتين اثنين) كما جمع الثلاثيّات (القصائد التي تحتوي على ثلاثة أبيات) والرباعيات والخماسيّات ثمّ القصائد التي تحتوي على عدد من الأبيات.. كان مشروع التليسي مشروعا طموحا.. وقد بقي إلى آخر أيّام حياته منكبّا على كتب الشعر القديمة يبحث فيها عن الأبيات التي التي تلمع كأعواد الثقاب.. غير عابئ بأعباء السنوات ولا بأوزار المرض..
لم يفوّت التليّسي أيّة فرصة دون أن يشيد بالأعمال السابقة التي استصفت من التراث بعض نماذجه ويحتفي بقيمتها المعرفيّة في حين صمت أدونيس عن كلّ الأعمال التي أتاحت لعمله أن يكون..
لماذا هذا الصمت؟ولماذا لم يقرّ شاعرنا الكبير بجهد من سبقوه وانعطفوا قبله على التراث بالتحليل والتأويل ؟وكيف لا ينوّه على وجه الخصوص بعمل الشيخ التلّيسي الذي أوحى له بموضوع كتابه ؟
من الأصدقاء من ذهب إلى أنّ أدونيس قد استلهم هذه الفكرة، فكرة قصيدة البيت الواحد، من كتاب .جورج شحادة الموسوم بأنطولوجيا البيت الواحد وكان ترجمه إلى اللغة العربيّة الشاعر عصام محفوظ ومنهم من ذهب إلى أنّ الشاعر استوحى الفكرة من كتاب غازي القصيبي «في خيمة شاعر» الصادر سنة 1988.. والواقع أنّ هذه المزاعم لا ينهض لها دليل يؤكّدها ويزكّيها.. فالكتاب كلّ الكتاب مستلهم من كتاب التلّيسي.. ودليلنا على ذلك هذا الاتفاق الغريب في المصطلح وفي الأبيات المختارة وفي فهم طبيعة قصيدة البيت الواحد.