أصدر أدونيس قبل أشهر كتابا جديدا في أربعة أجزاء عنوانه «ديوان البيت الواحد» جمع فيه أبياتا مفردة انتخبها من مدوّنة الشعر العربيّ القديم وأجراها مجرى القصائد / الومضة التي يصفو فيها الإيجاز، حسب عبارته، وتتكثّف حكمة البداهة وبداهة الحكمة ...فالغاية من هذا العمل، كما كتب أدونيس، تتمثّل في تمكين القارئ العربيّ الذي يحبّ السفر في اتجاه الذاكرة والتاريخ والماضي «من أن يسير خفيفا في دروب الفكر والمخيّلة حيث تتموّج ينابيع شاهقة من اللذّة والغبطة ...غبطة الفكر ولذّة الحسّ والمخيّلة». وقد أورد أدونيس أبياتا كثيرة من نتاج ما لا يقلّ عن 290 شاعرا ابتداء من الجاهليّة وصولا إلى بضعة شعراء من نهاية القرن التاسع عشر إلى بداية القرن العشرين...
وهذا الكتاب، وإن بدا للبعض رائدا وجديدا وكبيرا «تدعمه شعريّة رائدة مميّزة وتخمّر فكريّ عميق».. فإنه بدا لنا رجع صدى لكتاب آخر سبق كتاب أدونيس بثلاثين سنة وتناول الفكرة نفسها واستخدم المصطلح نفسه وربّما انتخب عددا كبيرا من الأبيات نفسها وهو كتاب الشاعر والناقد الليبيّ الكبير خليفة محمد التلّيسي الموسوم ب«قصيدة البيت الواحد». وكتاب الشاعر الليبيّ قد ضمّ ، هو أيضا ، منتخبات من الأبيات المفردة أطلق عليها التلّيسي مصطلح «قصائد البيت الواحد» واصطفاها من التراث «بعد غوص بكلّ معنى الغوص ، وعناء بكلّ معنى العناء ، على حدّ عبارته ...ورغم جمعه لعدد هائل من نصوص التراث في ألفي صفحة تقريبا فإنّه وعد قارئه بأنّه سيواصل الغوص في أعماق التراث باحثا عن هذه الجواهر « ما امتدّت به الحياة واتّسع له الجهد..».
كتاب التليسي الموسوم ب«قصيدة البيت الواحد» صدر سنة 1983 عن سلسلة كتاب الشعب الليبيّة ثمّ صدرت له طبعة ثانية عن دار الشروق المصريّة سنة 1991... وقد لفت، غداة صدوره، انتباه الكثير من الكتّاب والنقّاد الذين أشادوا به، وبالفكرة التي نهضت عليها مقدّمته ووجّهت منتخباته ومختاراته والقائلة «إنّ الأصل في الشعر القديم هو البيت الواحد» وما سواه فهو صناعة وابتعاد عن البداهة والعفوية...ومن بين هؤلاء النقّاد الذين قرؤوا الكتاب قراءة متأمّلة نذكر رجاء النقاش وغادة السمّان والمنصف الوهايبي وخالد النجّار الذي كتب نصّا جميلا عنوانه «حماسة خليفة محمد التلييسي...» ملوّحا لمنتخبات أبي تمّام التي عرفت باسم كتاب الحماسة كما قرأه عدد آخر كبير من الشعراء المشارقة والمغاربة ...وقد أسرّ لي الشيخ التليسي أنّه أهدى أدونيس نسخة من هذا الكتاب «قصيدة البيت الواحد» وأنّ صاحب ديوان «أغاني مهيار الدمشقي» قد عبّر له عن اهتمامه الكبير به واحتفائه بما جاء فيه من مختارات شعريّة تنمّ عن ذائقة شعريّة متمرّسة بقراءة الشعر.
كلّ هذا يرجّح ، في نظرنا، اطلاع أدونيس على هذا الكتاب الذي أعاد ، بجرأة فائقة ، قراءة تراثنا الشعريّ في ضوء جديد، ورؤية جديدة...فالتلّيسي قد حاول أن يثبت، من خلاله، أنّ قصيدة البيت الواحد هي الجذر والأصل وأنّ القصيدة التي تحتوي على أبيات كثيرة قد جاءت في مرحلة لاحقة، وجاءت معها مشكلاتها التي لم يكن يعانيها الشاعر الأوّل ، شاعر الفطرة والطبع...وقد ارتدّ التلّيسي، لإثبات هذا الرأي وتأكيده، إلى المدوّنة النقديّة التي دارت على البيت الواحد تستنطقه وتتأوّله..أي إنّ كتاب التليسي ليس مجرّد منتخبات شعريّة بل هو قراءة جديدة لتراثنا الشعريّ مفتوحة على أفق معرفيّ وفنّي جديد...بعبارة أخرى نقول : إنّ هذه المختارات ليست إلاّ تطبيقا لرؤية نقديّة ما فتئ الرجل يبشّر بها ويدافع عنها ...
كان هذا العمل مشروع حياة التليسي فقد قضّى الرجل في جمع مادّته وتبويبه السنوات الطوال باحثا في المدوّنات القديمة والحديثة عن «الجواهر الرائعة التي لا تنتظر إلاّ أن تمتدّ إليها الأيدي لتعود حيّة من حيث تركيزها ...واعتمادها على اللمحة الخاطفة، والالتفاتة العابرة ...» لكنّ هذا العمل لم يكن مجرّد جمع وتبويب بل حاول «أن يتميّز بأصالته وخصائصه ونظرته الخاصّة إلى هذه النماذج الجميلة من الشعر العربيّ» لهذا كانت هذه المختارات، كما يقرّ التليسي، محكومة بدوافع ذاتيّة ترتدّ إلى تربيته الأدبيّة والفنّية والذوقيّة...