قال صاحبي : لفت نظري ذلك السؤال المصيري الذي عنون به شكيب أرسلان أحد نصوصه قبل سبعين سنة: «لماذا تأخر المسلمون، ولماذا تقدّم غيرهم»؟ وهذا يبرهن مرّة أخرى على وعي رواد الحركة الاسلامية بمدى التخلّف الذي لحق بالمجتمع الاسلامي محاولين فهم أسبابه، وطرق تجاوزها.
قلت : تمت الإشارة إلى أن الشيخ رفاعة الطهطاوي قد ترجم قبل سؤال أرسلان بقرن كتاب مونتسكيو «تأملات في أسباب عظمة الرومان وانحطاطهم» وهدف دون ريب إلى ضرورة بحث أسباب تقدّم المسلمين زمن ازدهار الحضارة العربية الإسلامية، ثمّ أسباب انحطاطهم منذ سقوط بغداد حتى اليوم، مدركا أن الوعي بأسباب التدهور يمثل الخطوة الضرورية لتحقيق النهوض.
قال صاحبي : ما يحيرني اليوم هو بروز تيارات «إسلامية» تتجرأ، وتتهم ذلك الجيل من الرواد بالتبعيّة للغرب، والتنكّر للإسلام «الصحيح»، والمعروف انه جيل جمع بين ثقافة إسلامية عميقة، ومعرفة بالغرب؟
قلت : هذا الذي بعث في نفسك الريبة جعل كثيرا من المختصين في قضايا «الاسلام السياسي»، والعارفين بما في الزوايا من خبايا يذهبون إلى القول: إن هناك مخططات دولية تقف وراء الظاهرة.
إن احتكاك رواد اليقظة العربية الاسلامية بالحضارة الغربية ابتداء من منتصف القرن التاسع عشر جعلهم يلمسون البون الشاسع بين وجهين متناقضين: وجه مستحدث هو وجه المجتمعات الأوروبية، ووجه متخلف هو وجه الامبراطورية العثمانية، والأقطار العربية السابحة في فلكها، فسيطر عليهم هاجس عبور الهوة الفاصلة بين المجتمع العربي الاسلامي الضعيف والمتخلف، والمجتمع الأوروبي القوي والمتقدم، فليس من الصدفة – إذن – أن يكشفوا لشعوبهم عن الوجه المشرق لأوروبا من خلال رحلاتهم، وقد سمى صاحب الجوائب أحمد فارس الشدياق رحلته «كشف المخبأ عن فنون أوروبا»، وميزوا في علاقتهم بالآخر تمييزا واضحا بين وجهي الغرب، وجه الغرب الامبريالي الاستعماري البشع، ووجه الغرب المتمدن قائد الثورات السياسية والاجتماعية المتعددة ضد السلطة الاستبدادية، وفي سبيل حداثة قائمة على دعامتي العدل السياسي والحرية، وقد مكنهم التمييز بين وجهي الغرب، والإفادة من الوجه المشرق من نقد الذات من خلال التعرف إلى الآخر.
أنت تعرف أنّني ضد من يتهم الفكر العربي الاسلامي بالتبعية، واجترار ما يطرحه الفكر الغربي من مسائل، وعجزه عن استنباط قضايا خاصة به، إنها تهمة تخدم أنصار الانغلاق والانعزال، الفكر العربي اليوم هو جزء من الفكر العالمي يتفاعل معه، وهو تفاعل ضروري لفهم الواقع العربي، والإجابة عما يموج فيه من مشاكل، فليس عيبا أن ننقد الخطاب الحداثي العربي بمناهج الحداثة الغربية وأساليبها، بل في ذلك كسب ثمين لخطاب الحداثة العربي.
إننا مدركون، وواعون في الوقت نفسه بمحاذير تناول مثل هذا الموضوع المعقد والمتعدد الجوانب، ولكن ذلك لا يمنع من الإسهام المتواضع في إنارة بعضها، وإن ورد ذلك أحيانا في شكل تساؤل، وكم هو في حالات كثيرة أجدى من الإجابة. ونبادر إلى القول : إن الحداثة في مبادئها وقيمها واحدة، وهي البنت الشرعية لعصر التنوير الأوروبي، وما تلاه من ثورات عارمة في سبيل التحرر السياسي والاجتماعي، فليس هناك حداثة عربية أو إسلامية، أو حداثة ذات طابع وطني يحاول دعاتها اليوم التحرر تحت شعار «الوطنية»، أو «خصوصية الهويّة» وهي من القواعد الصلبة التي شيّد فوقها صرح الحداثة، وفي مقدمة هذه القواعد : الحرية.
قال صاحبي : هم لم يحاولوا – إذن – أسلمة الحداثة كما تطمح قيادات «الاسلام السياسي» اليوم مع الملاحظة أن البون بين ثقافة الرواد وثقافة هؤلاء شاسع، فأين الثريا من الثرى .
قلت : تمثل الشرط الوحيد الذي تمسّك به الرواد هو عدم تعارض اقتباس التجارب التحديثيّة الغربيّة مع الشريعة، ونادوا في الوقت ذاته بضرورة تجديد الفكر الإسلامي ليصبح منسجما مع قيم الحداثة، وقد ذهب البعض بعيدا فرأى ضرورة تحديث الإسلام عبر قراءة جديدة للنصوص المؤسسة.
هكذا برزت مسألة التوفيق بين الحداثة والإسلام، ودشنوا بذلك مقولة الثنائيات في الفكر العربي المعاصر : التقدم والتأخر، النقل والعقل، الأصالة والمعاصرة، التجديد والتراث، ثم المجتمع المدني والجماعة، السلفية والعلمانية، الشورى والديمقراطية، الدولة الحديثة والقبيلة، الدولة الحديثة والطائفية، ثم العولمة والهوية، والعولمة والعولمة المضادة، والعولمة الإسلامية، وغيرها من الثنائيات التي مازال يشكو من عبئها الفكر الحداثي العربي حتى اليوم.
قد نفهم ضرورة التوفيق عصرئذ، لكن الظاهرة استمرت، بل استفحلت بعد مرور قرن ونصف على بروزها، فهل يستحيل تجاوزها في الظروف الموضوعية التي يمر بها المجتمع الاسلامي اليوم؟