ليس صدفة أن كل مراحل تاريخ تونس المعاصر كان فيها للاتحاد العام التونسي للشغل دور... كان الاتحاد لاعبا خطيرا ومهما منذ تأسيسه في معركة التحرير ثم كان له دور أخطر وأهم منذ يوم 17 ديسمبر 2010 تاريخ انطلاق الاحتجاجات الشعبية في تونس ضد النظام مرورا بمحطات كثيرة ميزت دوره في تاريخ تونس. أي دور إذا الآن للاتحاد في مرحلة تعرف فيها تونس الكثير من التعقيدات وفي مرحلة تبدو دقيقة جدا في تاريخ الدولة التونسية؟ هل سيكون الاتحاد العام التونسي للشغل مؤثرا في هذه المرحلة وفي المرحلة القادمة؟ كيف سيكون دوره وماهي طبيعة هذا الدور، وهل ستكون له حدود؟ كيف سيتداخل النقابي بالسياسي في دور الاتحاد العام التونسي للشغل؟
أسئلة كثيرة، لكن الاجابة عنها تحتاج إلى أن ندرك دور هذا العملاق.
الاتحاد العام التونسي للشغل كان له دور بارز في معركة التحرير وكان زعيمه ومؤسسه الخالد فرحات حشاد شهيدا للحركة الوطنية قبل أن يكون شهيدا للحركة النقابية، لكن قليلون يعرفون أن دور الاتحاد العام التونسي للشغل كان الأخطر وكان الدور الذي غير مسار تاريخ الدولة التونسية من خلال مؤتمر التصحيح للحزب الاشتراكي الدستوري الذي انعقد في صفاقس في سنة 1955 وهو المؤتمر الذي أزاح فيه بورقيبة صالح بن يوسف مستعينا حينها بلجنة نظام تتكون من أكثر من ألف عنصر من العمال والنقابيين وبدعم مباشر وصريح من الهياكل النقابية حينها... كان هذا الدور الذي لعبته الهياكل النقابية نقطة تحول في مصير البلاد ومصير الدولة التونسية.
استقلال
وبعد الاستقلال كان للنقابيين وللاتحاد العام التونسي للشغل الدور الأبرز في بناء الدولة التي كان أغلب رجالها ووزرائها قياديين ومسؤولين في الهياكل النقابية ثم كان الاتحاد صاحب البرنامج الاقتصادي والاجتماعي الذي تبنته الدولة ونفذه أحمد بن صالح القيادي البارز في الاتحاد العام التونسي للشغل... وقليلون أيضا يعرفون أن برنامج اصلاح التعليم الذي انطلق في سنة 1958 وعرف ببرنامج محمود المسعدي كان برنامج الهياكل النقابية والمسعدي كان مسؤولا نقابيا.
محطات
على مرّ المحطات التاريخية لعب الاتحاد الدور الأبرز والأخطر بصرف النظر عن الأزمات التي عرفها مع النظام الى أن بلغ هذا الدور انتفاضة 17 ديسمبر... كانت علاقة الاتحاد حينها بالسلطة وبالنظام جيدة وبعيدة عن التوتر، لكن ذلك لم يمنع أن تتحول الهياكل النقابية الى الحاضن الوحيد حينها للانتفاضة ولأبطالها. الكل يعرف والكل يتذكر أنه منذ اندلاع الاحتجاجات مساء يوم 17 ديسمبر في سيدي بوزيد برز النقابيون المحليون على شاشات تلفزات العالم... وحدهم كانوا يتحدثون ويصرخون... والكل يتذكر أن أعضاء المكتب التنفيذي الوطني كانوا أول من تحول إلى تالةوسيدي بوزيد والقصرين وكل المناطق الساخنة.
وجد الاتحاد نفسه صاحب الدور الأخطر والأهم ووجد نفسه ينحاز الى الجماهير المنتفضة حينها الى أن كان يوم 14 جانفي وهو اليوم الذي دعا فيه الاتحاد الجهوي للشغل الى اضراب عام والى مسيرة انطلقت من ساحة محمد علي الى شارع بورقيبة وتتحول الى أعظم مسيرات الشعب وبعدها سقط نظام بن علي. أصبح الاتحاد جزءا من المعادلة السياسية في البلاد بالرغم من دوره النقابي والاجتماعي وهو دور أقلق السلطة والأحزاب الحاكمة على ما يبدو.
مبادرة ودستور
يصرّ الاتحاد على أن يكون لاعبا بارزا في هذه المرحلة التي تلت انتخابات 23 أكتوبر من خلال تقديمه لمشروع هيئة مستقلة للانتخابات بالاشتراك مع عمادة المحامين ورابطة حقوق الانسان وقبلها كان الاتحاد أول من تقدم بمشروع دستور وعرضه على المجلس التأسيسي مما يعني أنه في قلب اللعبة السياسية والآن بتقدم الاتحاد بمبادرة لتنقية الأجواء في البلاد وضمان الانتقال الديمقراطي.
لكن هناك سؤال هام يطرح الآن، لماذا يخاف البعض من دور الاتحاد وفي الحياة السياسية؟
لقد ظل الاتحاد العام التونسي للشغل على مدى أكثر من نصف قرن هو المنظمة الوطنية الأكبر في تونس وكانت لعبة التوازن بينه وبين الحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم فقط.
الخوف من الاتحاد ليس بفعل دوره، بل بفعل الرصيد النضالي الكبير الذي يملكه وبانتشار هياكله ومناضليه والامكانيات اللوجستية التي يملكها وتمكنه من التحرك والتأثير... ثم أن الهياكل النقابية كانت دوما الحاضن الطبيعي والتاريخي لمختلف التيارات والحركات السياسية التي عرفتها تونس ولازالت هذه الحركات وهذه التيارات ناشطة ومتواجدة الى الآن داخل الهياكل النقابية القاعدية والوسطى.
كل هذه الامكانيات التي يمتلكها الاتحاد جعلته أكبر وأقوى من كل الأحزاب بما في ذلك الأحزاب الحاكمة وجعلته الوحيد القادر الآن على التعبئة وعلى تحريك الشارع وتحريك القواعد، لكن قيادة الاتحاد أكدت أنه لن يشارك في الانتخابات القادمة كطرف سياسي وبالتالي، فإن الاتحاد سيبقى قوة تأثير وقوة توازن، لكن خارج اللعبة الانتخابية بشكل مباشرة.
لقد أعلن حسين العباسي، الأمين العام أن على الجميع أن يفهم أن الاتحاد غير معني بالانتخابات القادمة، ولكنه معني بإنجاح الانتقال الديمقراطي والنقابيون هم أحرار في الترشح والمشاركة في الانتخابات كأفراد مثلهم مثل كل المواطنين.
اعلان العباسي يعني الكثير وهو أن الاتحاد سيبقى حريصا على دوره الذي لعبه دائما وهو دور التوازن، دور خطير لا تقدر عليه الأطراف الأخرى وهو دور ينجح الاتحاد في ممارسته عندما يكون خارج لعبة الحكم.
لقد أكدت المركزية النقابية في مناسبات عديدة أن الاتحاد، لن يقبل أبدا بانفراد حزب بالسلطة مثلما أكد أنه لن يقبل بمنع التظاهر في شارع الحبيب بورقيبة مما جعل وزير الداخلية يتراجع وأنه لن يقبل بفشل الانتقال الديمقراطي ولن يوافق على نظام برلماني وهذه كلها خطوط تبين وتؤكد الدور المهم للاتحاد العام التونسي للشغل وهو دور يختلف عن الدور الذي لعبه زمن الحبيب عاشور الذي كان أحد المحركين الأساسيين في لعبة الحكم والسلطة قبل أن يدخل في قطيعة مع النظام بلغت حدّ وضعه تحت الاقامة الجبرية.
حدود
قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل الآن تدرك جيدا على ما يبدو أين ينطلق دورها وأين ينتهي وبين البداية والنهاية لا بدّ من تجنب لعبة التحزب.