ليس من السهل التصديق بإمكانيّة تفكير الرئيس في الاستقالة، في السرّ، بعد أن استمات في الحصول على تصديقنا بأنّه لن يستقيل، في العلن!! إذا صدقت إحدى القضيّتين كذبت الثانية ذاك هو قانون الثالث المرفوع! لكن يبدو أنّ للمنطق الرئاسيّ قوانينه التي لا يعرفها المنطق الأرسطيّ! من هذا المنطلق بدت التسريبات نوعًا من الرسالة المشفّرة واستخدامًا للفُرَقاء لمناورة الشركاء!
انقشعت هذه «الاستقالة» عن طََلبِ إقالة محافظ البنك المركزيّ.. وأُقيلَ مُديرون من إداراتهم.. واستقال حزبيّون من أحزابهم.. وبدا المجلس التأسيسيّ مُستقيلاً من مراقبة الحكومة.. وتفنّن سياسيّونا في تسويق الاستقالات حتى بات من الجائز القول إنّهم ارتقوا بالاستقالة إلى مرتبة الفنّ!!
احتار المواطنون في كلّ هذا! فهم يعرفون عن طول خبرة أنّ طُلاّب السلطة لا يستقيلون.. لأنّ من يستميت من أجل الجلوس على الكرسيّ يستميت من أجل المحافظة عليه.
هنا أصبح من الضروريّ البحث عن تصنيف للاستقالات لِفَهْمِ هذا الفنّ الجديد! وقد سمحت هذه الفوضى الاستقاليّة الخلاّقة بالانتباه إلى أكثر من عشرة أصناف. الاستقالة الاضطراريّة: على طريقة بيدي لا بيد عمرو! وهي التي ارتكبها الرؤساء الهاربون مثلاً، ممّا جعلنا نكتشف أن شعوبنا أفضل دون رؤساء!! الاستقالة الاستباقيّة: وهي تلك التي يرتكبها صاحبُها قبل أن «يستقيلوه»! عبارة من عنديّاتي يمكن تعويضها بعبارتنا الدارجة البليغة قبل أن «يورّيوه حنك الباب»!! الاستقالة الافتراضيّة: ومن أبطالِها كوشنير الذي قال بعد أن خدعه ساركوزي إنّه فكّر في الاستقالة لكنّه رفض أن يُعتَبَر فارًّا من الجنديّة!! وقد أُدرجت هذه العبارة في مسابقة أجمل نكتة سياسيّة في فرنسا لسنة 2010 !
الاستقالة التخديريّة: وهي في الحقيقة إقالةٌ للناخب الذي يُدعَى إلى وضع ثقته في نوّابه عند الانتخابات ثمّ يُطالَب بالاستقالة حتى موعد الانتخابات القادمة! هكذا يتمّ مسخُ الثقة إلى استقالة وتحويل الشرعيّة إلى مُخَدِّر!
الاستقالة التنشيطيّة: نسبة إلى المنشّطات. وهي غالبًا إشاعة يتمّ الترويج لها لنفخ الروح في مسيرة مُحتضرة أو بحثًا عن بكارة جديدة بعد بهْذَلةٍ شديدة! الاستقالة اليعقوبيّة: لحاجة في نفس يعقوب تتلخّص غالبًا في حبّ الزعامة! ويرتكبها عادة ممثّلو الصفّ الثاني بحثًا عن «قَصَّة عربِي» للقفز إلى الصفّ الأوّل! الاستقالة الطرواديّة: نسبةً إلى حصان طروادة. وهي تكليفٌ بمهمّة غير مُعلَنة! أو نوعٌ من التفرّغ لتمكين أحدهم من اختراق جبهة أخرى أو لزرعه في موقع آخر! الاستقالة الاستفتائية: ويُتراجَع عنها تلبيةً لرغبة الجماهير في نوع من الاستفتاء! مع مُشاركة الزملاء في مناشدة المستقيل كي يتراجع لا حبًّا فيه بل رغبةً منهم في إقالته بأنفسهم!
الاستقالة التمويهيّة: وهي ابتزاز غير مُسمَّى أو نقلةٌ مستترة تقديرها المُحاصصة والمُقايضة إلى آخر قائمة أكسسوارات التجارة السياسيّة! الاستقالة الفصعانيّة: ويرتكبها صاحبُها بحثًا عن الخلاص كلّما بدا له أنّ موقعه أصبح سفينةً تغرق وعليه أن «يفْصعَ» منها قبل أن يغرق مع الجماعة! الاستقالة البيضاء: والبياض هنا بالمعنيين.. بالمعنى الذي نعرفه في سياق الرصاص الأبيض الذي يُسمع له دويّ دون أثر يُذكَر! وبالمعنى الذي نذهب إليه حين نستحضر العبارة القديمة «القرش الأبيض لليوم الأسود»!
قد يسألني قارئ وأين الاستقالة الحقيقيّة الاحتجاجيّة المُقاوِمة التي تُشَرِّفُ صاحبَها وتعبّر عن انتصار المبدإ والموقف على المصلحة والمنصب؟
هذا الصنف موجود، والدليل على ذلك استقالة الهيئة الوطنيّة لإصلاح الإعلام والاتّصال. لكنّه صنف نادر. بل أندر من الكبريت الأحمر. الخوف كلّ الخوف، أنّنا ومع احترام الاستثناءات الموجودة، مازلنا أمام نفس القالب القديم الذي فرّخ لنا كائنات سياسيّة لا يغادر أحدها الكرسيّ إلاّ «على نعشه»! ولعلّ منكرًا ونكيرًا لا يقفان عند رأس أحدهم في القبر إلاّ سمعاه يقول: لن أستقيل! لن أستقيل! لن أستقيل! ثلاثًا.. ثمّ يجهش بالبكاء قبل أن.. «يُسْتَقَال»!!