ضمن فعاليات مهرجان الياسمين برادس في دورته 19 نظم مؤخرا النادي الثقافي بالمكان ندوة فكرية حول «المواطنة والعيش المشترك»وقد ساهم في تأثيثها ثلة من رجال الفكر والفلسفة على المستويين الوطني والعالمي رجال الفكر هؤلاء هم السادة علي شقواي وهو باحث في شؤون الحضارة العربية والإسلامية وحمادي البرواقي الباحث والمختص في الفلسفة المعاصرة والناصر عبد اللاوي الباحث في الفلسفة وذلك تحت إشراف الدكتور فتحي التريكي أستاذ كرسي اليونسكو للفلسفة «جامعة تونس». كان الحضور متواضعا ومقتصرا على مجموعة من النخبة المثقفة تماشيا مع طبيعة الموضوع.
المداخلة الأولى كانت للباحث علي شقواي وهي تشير إلى ثلاث ملاحظات تمهيدية تبدو في ظاهرها بعيدة عن إشكالية التعايش لكنّ في باطنها مرتبطة ارتباطا عضويا بموضوع الإشكالية وهي تهدف إلى التطرق إلى مبحث التعايش باعتباره ليس مبحثا جديدا انطلاقا من أهم الاستنتاجات في هذا الموضوع فالمقصود بالمفهوم المعجمي البسيط للتعايش هو الألفة والأنس والمودة والوئام والمشاركة في العيش ولكن المفهوم بالمعنى الاصطلاحي هي فكرة تجعل الأفراد يعيشون في سلم وأمان مع اتفاق ضمني لعدم اللجوء إلى القوة والعنف لتسوية الخلاف فالإسلام أقرّ التعايش واعتبر أن الاختلاف سنّة كونيّة وقد استشهد المتدخل بالآية القرآنية «ياأيها الذين آمنوا اتقوا ربّكم الذي خلقكم من نفس واحدة « وهو ما يعتبره إقرارا بشرعيّة الاختلاف في الاعتقاد والتصوّر كما يستحضر الأستاذ عليّ شقواي استقبال الرسول صلّى الله عليه وسلّم لنصارى نجران حيث تذكر السيرة النبويّة أنّ الرسول الأكرم كان يزور اليهود والنصارى ويحضر ولائمهم فكيف كان التعامل في الحضارة الإسلاميّة ؟ وقد اهتمّ بها الباحث شقواي اهتماما كبيرا في دراساته الأكاديميّة ثم تطرق إلى مفهوم الصداقة في القرن الرابع للهجرة في العصر العباسي الثاني وما شهده من انحدار للثقافة العربيّة الإسلامية مع بروز فلاسفة وفئة من المفكّرين وهم جديرون بالدراسة مثل أبي حيّان التوحيدي ومسكويه وأبي الحسن العامري والمتصوّفة.
وقد ظهرت كتب عديدة اهتمّت بمراجعة تراثنا ومن بين هؤلاء من هو سنيّ ويهوديّ واثنا عشري ومسيحي وقد نشأت بينهم علاقة صداقة رغم الاختلاف وقد أنتجوا كتبا عديدة فيها إصرار وإيمان وإقرار صريح بأنّ الإنسان لا يمكن أن يكون منغلقا على ذاته وهنا تأكيد على معنى التواصل والتعايش وقد تحّدث هؤلاء المفكرون عن المحبّة مثل مسكويه وبيّنوا وظائف التعايش الذي ينمّي ثقافتنا وزادنا فالتجربة تبيّن أنّ المنزع الإنساني التنويري بارز في الثقافة العربيّة الاسلاميّة ثم بين الأستاذ أن احتدام التجاذبات السياسيّة في بلادنا في الوقت الراهن تجعلنا نعود إلى تراثنا لنستنير به.
في مفهوم الهوية
المداخلة الثانية كانت للأستاذ حمّادي البرواقي حول مفهوم الهويّة وارتباطها بالتراث والموروث فالعقل الحداثي أصبح عقلا عنيفا ومن الضروري أن ينفتح على أشكال أخرى مختلفة قصد تحقيق مبدأ التعايش السلمي والايجابي والمثمر من خلال مفهوم التعقّل ثم أكّد المتدخل على وجود السلفيّة الدينيّة والسلفيّة العلمانيّة من جهة أخرى لذلك يجب إقامة حوار ثقافي يشرّع للاختلاف ويجب الدفاع باستماتة عن الحريّة للجميع ضد القسوة والتعذيب وخاصة ضد الإذلال مع احترام عقائد الفرد وأساطيره وتصوّراته وضرورة الجمع بين التجذر والتشبّث الديني وبين المواطنة لتحقيق التعايش السلمي والمثمر بين جميع الأطياف.
كانت المداخلة الثالثة للأستاذ والباحث الناصر عبد اللاوي حول مفهوم التآنس في المصادر العربية الإسلاميّة والمفهوم الراهن في الفلسفة الغربيّة فكلّها تحدّد جملة من المشكلات الحقيقيّة فلماذا لا نلتفت إلى أنفسنا نحن ؟ الهويّة واقعة فكريّة مرتبطة بالعقل لتعيش البشرية في توافق وانسجام من أجل تغيير العالم نحو الأفضل أي سعادة البشر لذا وجب الانتقال من الانزواء حول الذات إلى الانفتاح على الآخر فهل يمكننا الاهتمام بالذاتية والهوية لتجاوز حالة الانفصام ؟ فالهويّة مشكلا راهنا لذا يجب اعتماد البعد الكوني الذي يقر بانفتاح الهويّات على بعضها لتجاوز الإقصاء والتهميش فلتحقيق جماليّة العيش المشترك يجب تحقيق المصالحة بين التراث والمعاصرة فالحوار يقوم على التعقل والتآنس كي تتوّج جملة من المشاريع فالثورة ثورة عقول ولا يمكن أن تنجح دون تغيير عقول للتعايش وقبول الآخر.
مداخلة الدكتور فتحي التريكي جاءت في قالب إجابات عن التساؤلات التي طرحها زملاؤه السابقون ضمن مداخلاتهم فقد صرّح بأنّه كان مشدودا إلى الدراسات الماركسيّة وإلى الفكر الماركسي خاصّة ، فهو يرى أنّ الماركسيّة كانت قد انغمست كليّا في توحيد المناهج والفكر وهيمنت عليها فكرة الكليانيّة والغطرسة في الفكر والعمل لذلك أخذ الدكتور التريكي على عاتقه نقد الماركسيّة من الداخل وساءل ماركس عن التنوّع ، فهل يعطيه قيمة ؟ وصل التريكي إلى إقرار حقيقة أنّ التنوّع هو مبدأ لصياغة تصوّرات للعيش في كنف الحريّة والديمقراطيّة لبناء فكر تنويريّ ودون فكرة التنوّع مهما كان الانفتاح سيكون انغلاقا ، ففي كتابه «قراءات في فلسفة التنّوع» نقدٌ لاذع للماركسيّة وللقوميّة العربيّة لأنّ الفكرتين تقومان على مبدإ استبعاد التنوّع فالوحدة العربيّة تقوم على عسكرة المجتمع والماركسيّة تقوم على التطاحن الطبقي فإقرار فكرة التنوّع وحق الاختلاف في المجتمعات قد تؤدي أيضا إلى الدكترة والكليانيّة .ولمحاولة الحفاظ على الاختلاف والتعامل مع الآخر بواجهة التعقّل والتحاور فالتعقّل أكبر وأعظم من العقل وهو التعدّل للتنوّع ولا دفاع عن حقوق الانسان إلا بإقرار حقوق الفرد مثل نظريّة الفرابي التي تنادي بالتنوّع ثم التعقّل فالفردانيّة وفي آخر الندوة نادى الدكتور المحاضر بفتح الساحات العموميّة للنقاش لأنّنا سنعيش باشتراك كي نبني ما نسميه بالصداقة التي ستتحول فيما بعد إلى جمالية العيش المشترك التي ستؤدي إلى التآنس أما في مفهوم الهويّة فليست العودة إلى الماضي والارتكاز على التراث فحسب بل يجب على الشعب أن يبني هويّته في الحاضر والمستقبل ومن لا يفعل ذلك فهو شعب ميت فالهويّة هي هويّة الإبداع وليست هويّة الانتماء .