إن كانت النخبة في تونس فوّتت على نفسها فرصة تحريك وانجاز الثورة فإنها تفوّت ثانية على نفسها حماية أهدافها بما هي دفاع عن الحريات بمختلف تمظهراتها مما يدفع للتساؤل عن أسباب هذه الاستقالة الغامضة. في ظل هذه المعركة الثقافية قدّم المثقفون والمبدعون التونسيون استقالة جماعية واستسلموا لجلاّدهم ليكفّر ويمنع ويتعدى على حرياتهم وحقوقهم وهم في سبات عميق. فالمشهد الثقافي اليوم يحرّكه السياسيون حسب أهوائهم وميولاتهم في ساحة خالية من أصحابها. ولم يعلم هؤلاء أن أكبر الثورات في العالم قادوها المثقفون اذ لم تكن الثورات الأكثر تأثيرا في حركة التاريخ لتتحول الى مراجع للإنسانية لولا الاسهام الكبير للمثقفين والمفكّرين والمبدعين فالبشرية استفاقت ذات 14 جويلية 1789 على ثورة عارمة حولت وجهة التاريخ الإنساني لدفاعها المستميت على ثلاثية أصبحت محددة بحرية الإنسان ولم يكن لهذه الثلاثية المتمثلة في العدالة والمساواة والحرية لتترسخ في الذهن العام للبشرية لولا الدفاع المستميت للفلسفة وعلم الاجتماع والقانون.
والثورة الفرنسية انبثقت من رحم الفكر فكانت أولى قلاع الدفاع عنها تحمل بيارق منتسكيو وفولتار حتى أن المشروع الثقافي أمسى أحد أهم الحصون المنيعة التي حمت ودافعت عن الثورة الفرنسية وكذلك الشأن بالنسبة للثورة البلشفية والثورة الصينية وباقي الثورات التي أنجزتها الإنسانية في افريقيا وأمريكا اللاتينية التي أنتجت فكرا وثقافة كانت كافية لدحر جيوب الردة وضرب الثورات المضادة، لكن المؤسف ونحن نتأمل في 18 شهرا من عمر الثورة ا لتونسية تقف على حقيقة مرّة تحيل مثقفينا ومبدعينا على هامش تاريخ شعبهم باعتبار وقوفهم الى حد الآن وقفة الشاهد السلبي والحال أن مكاسب ومنجزات ثقافية وفكرية يتحكم فيها غرباء عنها في حين المنطق يفرض ان يكون هؤلاء المثقفون والمبدعون التونسيون على رأس قوافل الدفاع عن الحريات والابداع في معانيها على الأقل البسيطة.
الحكومة تتعامل مع المناشدين
لكن ما نلاحظه اليوم هو عزوف كامل من المثقفين والمبدعين عن الانتاج الثقافي وعن حماية الثقافة فالتجاوزات الحاصلة اليوم في حق الثقافة والمثقفين لا يمكن حصرها، صنصرة، اعتداءات جسدية ومعنوية، تكفير ومنع وحدّ للحريات، وأشياء أخرى والمثقّف والمبدع التونسي غائب عن المشهد.
ويقول الدكتور محمد القرفي في هذا الصدد إن المثقف التونسي مستقيل من السياسة والثقافة منذ تم الزحف على المشهد الثقافي من أشخاص أخذوا أماكنهم بالتملّق والتزلّف للنظام السابق والنظام الحالي فوجدوا أنفسهم اليوم في نفس الوضعية ولم يغيّروا سوى «اللحي».
يضيف القرفي «وللأسف حتى وإن كان هناك ابداعات وكتابات جديدة فالمجتمع التونسي لن يطّلع عليها لأن 20٪ منه أميّ لا يقرأ. وإن تحدّثنا عن الثورة الفرنسية يضيف محمد القرفي لا يمكن مقارنتها بالثورة التونسية فهي تراكمات قرن من التنوير ودراسات فكرية ل روسو وفلتار لكن في تونس يقول القرفي لم يقع الالتحام بين المفكرين والقاعدة. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى الحكومة الحالية ليس من مصلحتها التعامل مع المثقفين لأنهم سيناقشونها بل وجدت ضالتها في التعامل مع المناشدين فهي في حاجة إليهم أكثر من الآخرين لأنهم يجيدون المناشدة.
المثقفون ارتموا في أحضان الساسة
والتاريخ يذكر أنه في سنوات التسعينات عندما بدأ نظام بن علي يرمي بحبال الدكتاتورية تخلّى شق واسع من المثقفين عن أدوارهم وارتموا في أحضان آلة القمع وكوفئ بعضهم بمهام وزارية ومناصب سياسية فاستغنوا عن الثقافة وأهلها وانخرطوا في منظومة سياسية والحال اليوم شبيه بذاك العهد فبعض المبدعين التونسيين من فنانين وممثلين ارتموا في أحضان الساسة باحثين عن فرصة عرض أو مكان لهم في حضرة بلاطهم.
سيواصل المثقفون مسيرتهم
ويقول المسرحي نور الدين الورغي «تاريخيا وفي كل أنحاء العالم كان المبدعون في مقدمة نضالات الشعوب ورغم تعرضهم إلى القمع والاضطهاد والنفي والقتل صمدوا وكافحوا وكانوا الصوت المعبّر على هموم الكادحين والمبدع والمفكر يقلق لأنه يستشرف المستقبل، وما نعيشه اليوم في تونس من تعد على حرمة المثقفين عاشته شعوب من قبلنا وعاشته تونس منذ عهود، فمنع مسرحية أو عرض موسيقي أو كتاب لدليل واضح على أن ما يقوله المبدع حقيقة يريد البعض طمسها وإخفاءها ولكن رغم الحصار والتعتيم سيواصل المثقفون مسيرتهم التنويرية والتثقيفية والنضالية للدفاع عن ثورة الشعب وثورة الجماهير الكادحة.
ونحن لا ننسى نضالات الطاهر الحداد وماكسيم قوركي ونيرودا وكاتب ياسين وغيرهم من المبدعين الشرفاء، وإن بيانات التنديد لكل هذه التجاوزات سوف لا تكفي لفضح هذه التجاوزات وعلى المبدعين أن يفرضوا وجودهم الفعلي للدفاع عن حقوقهم الشرعية لأنّهم ركيزة البلاد ولأن البلدان بمبدعيها ومثقفيها ومن يلمس أو يضطهد مبدعا فقد تعدى على حرمة هذا الوطن العزيز».
وعندما نتأمل المشهد الثقافي اليوم نتأكد أن الحكومة والأحزاب السياسية وعلى كثرتها فهي لا تراهن على الثقافة ولا تهتم بالمثقفين لأنها تفتقر إلى فلسفة ثقافية تأسيسية ولأنها لا تعلم أن الدول تقام بالثقافة.
غير أن ما تشهده اليوم أن الثقافة التي يريدون بثها هي ثقافة أشخاص، عاشوا بعيدا عن تونس وشعبها يريدون تغيير الأذواق وأساليب الحياة والأفكار وهم لا يعرفون أصلا طبيعة هذا الشعب.