خيوط الأزمنة بين يديّ الشاعر : لازلت في مقهاي.. أستمتع بوقتي ولا يعنيني اطلاقا ان كان الوقت صباحا او مساء فأنا لا أغيّر قهوتي «الكابوسان» بتغيّر أحوال الطقس المناخي أو الطقس النفسي.. لا يعنيني اطلاقا أن تمرّ ساعة أو أكثر.. ما يعنيني ان هناك حبرا يسيل من قلمي ويتتبّع خطا مبدعا على الورق.. وان كانت المقاربة العلمية تعتبر أن الزمن يسيل بشكل منتظم ويتقدم بايقاع ثابت لا يتغير.. فان المقاربة الابداعية وحدها تسمح لنفسها بالعبث في المنظومة الزمنية ويتجميعها أو ترتتيبها وفق تصوّر ذاتي لا يحتكم الا الى ذائقة فنية جمالية.
وحتى ما يبدو من محاولات علمية جادة للسفر عبر الزمن انما يحتكم فيها الى قواعد علمية ثابتة زلات تبحث عن قوانينها الخاصة.. وتظلّ مجرد أضغاث أحلام العلماء.. ولكن المبدعون.. ما أروع جنون المبدعين يتجاوزون ذلك وباستطاعتهم السفر في الزمن من خلال مختلف تعبيراتهم الابداعية..
لذلك أجد الشاعر يستحضر أزمنة مختلفة وتواريخ مختلفة.. وان كان هيقل يقول «وحده الزمن يقتل الانسان» على اعتبار أن الزمن هو الذي يأتي على الانسان فيتهالك هذا الأخير وتستنزف طاقته ويهرم تدريجيا ويتحول من القوة الى الضعف ومن القدرة الى العجز.. ومن الثابت الى المتحوّل يهدّه المرض وتنخره الألام.. ثم ان الزمن هو الذي يمتحن الأفكار الكبيرة والمشاريع الجميلة التي عادة ما تنشأ وتشتد في مسار محدد ثم تتآكل وتنهار في آخر.. وربما لذلك انتهى فلاسفة التاريخ وعلماء المجتمع الى ضبط قواعد علمية تحتكم اليها الظاهرة الانسانية كالقول « بالحتمية التاريخية « عند ماركس أو القول « بالحتمية النفسية « عند فرويد وغيرهما... ولكن أجد المبدع هنا وخاصة الشاعر وحده الذي يملك القدرة وبامتياز على مواجهة الزمن واقحامه في البيت الشعري والزامه بمعنى يخدم فكرة الشاعر.. في قصيد « حفل آخر».. ( ص 30 ) : أنا أقرأ كتاب ادونيس الأخير.. وعزيز.. يصفّف حيواناته على نحو أدركته فيما بعد.. الفيلة في المقدمة والأسد كان الأخير وبينهما الطيور والكلاب والزرافات.. الى آخر ذلك.. وأما الدّيناصورات فهي بمكان الجمهور.. حين سألته عن السرّ.. أجابني : انقرضت ولذا يجب ان تحضر هذا الحفل لحيوانات اليوم... نلاحظ في هذا القصيد ان الشاعر يعود الى الزمن القديم.. الزمن المقدس ليس بالمعني الديني المحدود بل بالمعنى الموضوعي اللامحدود.. ذلك الزمن المتوغل في القدم ليستحضر منه كائنات منقرضة (الديناصورات) ويأتي بها الى الحاضر.. الى الآن.. الى مساء عائلي لطيف.. الى قاعة جلوس دافئة.. ويختزل الشاعر الوجود التاريخي من خلال حيوانات محددة هي الأسد والديناصور والطيور والكلاب.. وكأنه بذلك يطمئن مثل ابن المقفع الى عالم الحيوان ليتحدث عن عالم الانسان..