حين شرعت بكتابة «سيرة مدينة»، كنت أوفي وعدا قطعته على نفسي، أن أكتب عن المدينة التي رأيت فيها النور، والتي قضيت فيها طفولتي وأول شبابي. أما لماذا قطعت ذلك الوعد ولمن، فلأني حين غادرت تلك المدينة غبت عنها ما يزيد على خمس وثلاثين سنة، ولما عدت اليها من جديد اكتشفت فيها مدينة مختلفة، لذا أردت أن أتذكر، مع ناس تلك الفترة، المدينة التي كانت، التي عرفتها، القديمة، كي تقارن بالمدينة الآن، وكي يستطاع من خلال المقابلة بين الصورتين اكتشاف ما يفعله الزمن، وماذا يعني توالي الايام وكيف يتغير البشر والأماكن بتقدم العمر. هذا أولا، وثانيا، وأنا أكتب، وأستعيد هذا المقدار الكبير من التفاصيل، كنت أكتب لنفسي، لمجموعة من الاصدقاء، إذ أردت أن أتذكر معهم مقدارا غير قليل من الحوادث والوجوه التي عرفناها معها، وكانت تعني لنا، ربما وحدنا، شيئا، وقد لا يعني للاخرين اكثر من مجرد أسماء ووقائع صغيرة، وهذه الاسماء والوقائع لا تصمد في الذاكرة. ولا يتوقف عندها الكثيرون.معنى الملاحظتين السابقتين: إنني كنت أبوح، أكتب لنفسي، وحين أمل ابعث برسائل الى الاصدقاء، لكن ما إن داهمتني اللحظات الصعبة، وحين اقتربت الظلمة، فقد أصبحت مثل اي طفل يخاف الوحدة ويخاف الظلام، أخذت أغني انتظارا لوصول الاخرين فلما وصلوا وأخذوا يسمعون ويشاهدون، اكتشف الصغير أن ما يفعله يعني الاخرين ايضا، واكتشف أن صوته لا يشجيه وحده، بل ويطرب الذين يسمعون، وهكذا تواصلت اللعبة الى أن اكتملت... بهذه الطريقة بدأت سيرة مدينة وهكذا انتهت. أما حين اختارت اللجنة الاوروبية للثقافة «سيرة مدينة» كي تترجم الى مجموعة من اللغات الاوروبية، وطلبت مني الموافقة، فقد اعتبرت ان في الامر مغامرة غير محمودة العواقب، فماذا يستطيع القارئ الذي لم يعرف عمان في أيامها القديمة، ولم يصادف بشرها او يسمع بالوقائع ا لصغيرة التي وقعت فيها، أن يرى المشاهد التي كانت ثم توارت الى الابد؟ ثم ما الصلة بين المدينة التي كانت والمدينة القائمة اليوم؟ أسئلة من هذا النوع ظلت حائرة، معلقة، الى أن دعيت الى اسبانيا للقاء المترجمين ومناقشة صيغ الترجمة الاخيرة الى اللغات السبع التي ترجمت اليها «سيرة مدينة»، وكم كانت مفاجأتي ثم دهشتي وأنا أكتشف مع تلك الكوكبة المميزة من المترجمين ان لكل واحد «عمانه»، وأن لكل «عمان» سيرة تتفق وتختلف مع سيرة المدن الاخرى، وأنه من خلال مدينة بالذات يمكن استعادة أماكن وأزمنة تعني الكثيرين، ويرى فيها الكثيرون ملامح مدنهم. إن الانسان، في أحيان كثيرة، لا يكتشف الا متأخرا الكم الكبير من الاشياء المشتركة التي تجمعه بغيره ويعجب كيف خفيت عنه، او لم ينتبه لوجودها ودورها طوال الفترة السابقة. ليس ذلك فقط، وهو يتأمل مدن الاخرين، وحياة الذين عاشوا فيها، تتبدى له بوضوح، وإن يكن بشكل مفاجئ، مدينة تحت اضواء جديدة وكأنه يستعيد حلما كان ذات يوم ثم تلاشى، فالصور والمشاهد التي كانت متوارية في الذاكرة تعاود الظهور، تماما مثل الاسهم النارية وهي تصعد ثم تتفجر. أين كانت تختفي؟ وإذا كانت بعيدة بهذا المقدار فكيف تظهر الان وتتدفق بهذه السرعة؟ إن المدن الجديدة بمقدار ما تشكل اضافة لنا ونحن نكتشفها، فإنها تجعلنا نكتشف مدننا، المدن التي ولدنا وعشنا فيها، والتي تشكلت منها ذاكرتنا، وأعطتنا جزءا من ملامحنا، ودربت اعيننا وأسماعنا على أشكال وألوان وايقاعات اصبحت جزءا منا. وهكذا تصبح المدينة، أية مدينة، تعرفا واعادة اكتشاف معا، فنحن نعرفها ولا نعرفها، رأيناها ولم نرها، جديدة وقديمة في آن واحد، وهي بكل المقاييس اضافة لذاكرتنا. وبهذه ا لطريقة يصبح للمدن مشهد جديد ومختلف، وتصبح اكثر من مجرد مكان. في طليطلة، أثناء مراجعة الترجمات، ثم أثناء تجوالنا في الحواري الضيقة دون تهيب، بدا لي أن الجميع يعرفون، بشكل ما، عمان، وتأكد ذلك اكثر ونحن نناقش عددا من التفاصيل المتعلقة بالطقس وأسماء وأوصاف بعض الحيوانات والطيور، وكان يلذ لكل مترجم ان يستعيد من مدينته الصور والمشاهد كي تقترب من عمان، وتبدو مجسدة واضحة للجميع، وتكون النتيجة أن تصبح عمان الرابضة على أطراف الصحراء، المدينة التي تعني كل واحد، وتقبل عليه كمدينته. لقد كانت ورشة طليطلة جميلة، مفيدة، ومثلت بالنسبة لي اكثر من جسر للوصول الى تخوم ما يسمى بالمدن ا لفاضلة، المدن التي يحبها الانسان ويشتاق إليها، وربما يكون قد قضى وقتا غير قصير وهو يبحث عن البوابات التي تقود الى داخلها، ليكتشف الفتنة والغموض وليعرف الاسرار التي تجعلها هكذا. لذلك كانت مناقشة «سيرة مدينة» في طليطلة بداية التعرف على مكان يشبه عمان، ويفتح أفقا لمعرفة أكمل وأدق للأماكن والبشر، كما يساعد على البدء برحلة طويلة لاكتشاف العالم والتعرف عليه، لأن بداية العلاقة مع الاخر هي المعرفة، وهذا ما يجعل «ذاكرة المتوسط» التي تتناول السيرة الذاتية والمدن بداية خصبة لرحلة طويلة. لتكتمل «ذاكرة المتوسط»، وكي تتواصل رحلة الاكتشاف الى النهاية، اي رصد المدينة، اية مدينة، في تحولاتها التي لا توقف، وأثناء تلك الزيارة التي قام بها مترجمو «سيرة مدينة» وعدد من المشرفين على ذاكرة المتوسط الى عمان بدعوة من أمانة عمان في ربيع 1998 وخلال التجوال في مدينة بترا الاثرية، وما تثيره في الذاكرة من الصور عن التحولات التي تلحق بالمدن، اقترحت على هذه المجموعة التي انشغلت خلال شهور متواصلة بترجمة كل تفاصيل تتعلق بعمان في فترة الاربعينيات، وكي نلم بالتغير الذي جرى عبر نصف قرن، لو ان شيئا يكتب عن عمان الذاكرة، وعمان المشهد الذي تراه العين وبالتالي يمكن ان نرى كيف تتغير المدن، وكيف تلحق بها الشيخوخة وكيف تمتلئ ملامحها بالتجاعيد. لو قدر لهذه التجربة، أو غيرها، ان تتبلور، لواصلت المدينة رحلتها عبر فترات زمنية متعددة، وعبر أجيال، وأيضا بعيون مختلفة. لو أن ذلك حصل لكسبنا نصا جديدا يشكل اضافة نوعية ويتيح لنا أن نرى المدن في تحولاتها، وهي تولد المرة بعد الاخرى. اقتراح مثل هذا أو ما يشابهه من اقتراحات، مازال ممكنا،ولعله يفتح أفقا لكي تظهر المدينة بعيون جديدة مختلفة. عن إيلاف