من المعروف في تاريخ ثورات الشعوب ضد الاستبداد، وفي سبيل افتكاك حريتها أنها استعملت أنواعا من الأسلحة، استعملت السلاح السياسي، والسلاح الفكري التنظيري، وسلاح الشارع، والسلاح الحقيقي، وكان سلاح الإعلام، ومن يتصل به من وسائل النشر والتعبئة بدءا بالمناشير المكتوبة باليد والمسحوبة على المطابع الحجرية إلى وسائل التعبير المعولمة نصا وصورة في مطلع الألفية الثالثة من أنجعها، وأبعدها أثرا، فهي التي تميط اللثام عن الوجوه القبيحة، وتفضح ما في الزوايا من خبايا. تعود بي الذاكرة الآن إلى تلك اللحظات التي حرر فيها قادة الثورة الفرنسية الكبرى مقالاتهم ومناشيرهم السياسية، سربوها بالحبال عبر النوافذ ليدفع بها إلى المطبعة دون أن تتفطن عيون الرقباء، وكان موقع المطبعة التي طبع فيها «مارا»صحيفته «صديق الشعب» خلف المكان السري.
لما كنت ذات يوم أرتشف قهوة الصباح في الطابق الأرضي لمقهى «بروكوب» (أسس عام 1686) بالحي الباريسي الشهير «سان جرمان» تخيلت روبسبيار، ومارا، ودانتون منشغلين في الطابق الأول بتحرير أحد المناشير المحرضة على الثورة.
يخطئ أصحاب النفوس المحبطة عندما يقولون : إن الإعلاميين العرب لم يعرفوا هذا النضال في مقاومة الاستبداد، والتعلق بالحرية ليس صحيحا، فقد أسهم الكثير منهم في مقاومة الحكم المطلق منذ أن عرفت الطباعة طريقها إلى العالم العربي، بل اضطر بعضهم إلى الهجرة لتأسيس صحف تدافع عن الحرية، فقد أصدر أديب إسحق (1856-1885) عام 1879 جريدة «مصر القاهرة» في باريس، وهوفي مطلع شبابه، وجاء في العدد الأول منها «تطبع في باريس تحت سماء الحرية لنشر ما يعود بالنفع على البلاد العربية»، وأسس جمال الدين الأفغاني (1838-1897) بعده بقليل مجلة «العروة الوثقى» رفقة تلميذه الشيخ محمد عبده (1849-1905)، ومن المعروف أن المصلح التونسي الجنرال حسين كان يرسل إليها من مدينة «ليفرنو» مساعدة مالية.
وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى ذلك العدد الكبير من مثقفي بلاد الشام الذين اضطروا إلى الهجرة فرارا من الاستبداد العثماني، وأسسوا عددا من الصحف التي تصنف اليوم ضمن المرحلة التحديثية في مصر.
ولما امتدت إلى البعض منهم أيادي الاستبداد إلى هجرة ثانية، ولكن هذه المرة خارج الفضاء العربي الإسلامي، وأبرز مثال على ذلك رائد الصحافة العربية إلياس سركيس (1867-1926)، فقد أصدر صحيفة في لندن، وصحيفتين : «البستان»، و«الراوي» في أمريكا، ولخص تجربة الإعلام العربي مع الاستبداد يومئذ في كتابه الشهير «غرائب المكتوبجي»، وهويعني رقيب الصحف في عهد السلطان عبد الحميد.
وعندما نعود إلى الساحة التونسية نلمس الرسالة الوطنية النبيلة التي أداها الإعلام الحر في نشر الوعي السياسي وتعبئة الجهود في معركة الاستقلال والتحرر ابتداء من «سبيل الرشاد» التي أسسها الزعيم الثعالبي عام 1895، ولما يكمل عامه العشرين، و«التونسي» التي أنشأها زعيم حركة الشباب التونسي علي باش حانبة، ثم «الإرادة» لسان الحزب الحر الدستوري التونسي، وجريدة «العمل» التي أسسها الزعيم الحبيب بورقيبة، ثم «الشعب» التي أسسها الزعيم النقابي فرحات حشاد، وغيرها من الصحف الوطنية، وقد مثلت نصلا ناجعا في مقاومة الاستبداد والاستعمار.
ولما اشتدت قبضة الحزب الواحد الشمولي غداة الاستقلال، وتنكرت الدولة الوطنية الناشئة لقيم الحرية قاد الإعلام معركة جديدة من معارك الحرية، وعندما زحف الطاعون الأسود على البلاد بعد ذلك وقف الإعلاميون الأحرار في وجهه رغم الترغيب والترهيب، وعرف بعضهم مرارة المنفى ليواصلوا حمل مشعل الإعلام الحر، ثم تلت بعد ذلك معركة الحرية الحاسمة، وقد كان لوسائل الإعلام الحديثة دور بعيد المدى في إسقاط الصنم، وكشفت الثورة عن جيل جديد من الإعلاميين والإعلاميات لن يقبل أبدا أية محاولة لتكميم الأفواه، وشل الأقلام، ونجد في طليعة هذا الجيل الإعلاميات فأظافرهن أطول، وأسنانهن أشد نصاعة ومضاء.