مع اقتراب عيد الأضحى المبارك بدأ اهتمام الشعب التونسي كغيره من شعوب العالم الإسلامي يتجه نحو الاستعداد لهذه المناسبة وبدأت الأسواق تتحرك بتوفير الخرفان وبدأت حمى الأسعار في التصاعد إلا أننا في هذه السنة نعيش حالة استثنائية نتيجة الوضع السياسي الذي وإن بدا في ظاهره هادئا مستقرا إلا أنه في الحقيقة في باطنه مضطرب يهدد بالانفجار أما في الجانب الاقتصادي فان الوضع في تراجع ومؤشراته قوية وواضحة أساسها البطالة وارتفاع الأسعار وغيرها مما أرهق كاهل الطبقة الضعيفة والمتوسطة والتي تمثل غالبية الشعب التونسي. وفي هذا المناخ كانت تلح علينا ولا تزال مجموعة من التساؤلات تدور جميعها حول موضوع واحد وهو : كيف يمكن للمواطن أن يجمع بين هذه المتناقضات. تدهور قدرته الشرائية من جهة وغلاء الأسعار من جهة ثانية ورغبته في أداء الأضحية من جهة ثالثة هذه الأضحية التي التبست في ذهنه وتضخم حكمها حتى صار يظن أنها من الواجبات الدينية ولعل ذلك يعود إلى ممارسات العهد السابق وسياسته الاعلامية التي عمدت طيلة سنوات طويلة الى ترسيخ عادة الاستهلاك في الشعب لقضاء مصالح تجارية فهذا المواطن وتحت التأثير المتواصل من الاعلام بجميع وسائله أصبح يعتقد أن الأضحية من الواجبات الدينية التي يجب أداؤها وهو في سبيل ذلك يرهق نفسه بالتداين وغيرها...
وانتظرنا أن تبادر المؤسسات المسؤولة عن الشؤون الدينية إلى إصدار فتوى أو توضيح أو توجيه أو إرشاد يمكن أن يصحح المفاهيم في أذهان الناس ولكننا فوجئنا بتصريح محتشم ومفاده أن فضيلة مفتي الجمهورية يدعو الشعب التونسي إلى عدم التكلف في الأضحية ولقد حاولت جاهدا مغ غيري أن أفهم مضمون هذا الكلام فماذا يعني بعدم التكلف؟
هل هي دعوة إلى عدم شراء الأضحية؟ وفي هاته الحالة كان من اللازم إصدار حكم واضح مع بيان الأسباب الداعية إلى ذلك. أم هي دعوة إلى الشراء ولكن بأسعار منخفضة وفي هاته الحالة أيضا لا أظن الأمر بيد المشتري وإنما هو بيد البائع ومضبوط بقانون العرض والطلب. وكلما اقتربنا أكثر من العيد صار توقعنا أشد في أن تصدر هذه المؤسسات الدينية نصا أكثر وضوحا مما صدر عن دائرة الإفتاء. وفي الحقيقة كنت انتظر فتوى صريحة صادرة عن اجتهاد جماعي ومبينة على أسس علمية يشارك فيها خبراء في مجال السياسة والاقتصاد وعلم النفس وعلم الاجتماع لارتباط كل هذه المجالات بموضوع بحثنا.
دعوة صريحة
هذه الفتوى تدعو الناس صراحة إلى عدم التضحية في هذه السنة للضرورة القصوى المتعلقة بالمحافظة على الاقتصاد الوطني ومراعاة قدرة المواطن الشرائية والمتدنية لقوله تعالى : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها )وقوله تعالى : «(وما جعل عليكم في الدين من حرج). ولكن ضاع الانتظار فما تعودنا في تاريخنا أن يعارض فقهاء البلاط رغبات السلطان.
ومن هنا صار من الواجب علينا أن نقوم بما لن تستطيع القيام به كل المؤسسات الدينية الرسمية في بلادنا للأسباب التي أجملنا القول فيها ولأسباب أخرى منهجية وفكرية.
ونبدأ بالمسألة الأولى وإزالة الالتباس من أذهان الناس والمتعلق بحكم الأضحية فهي سنة مؤكدة ولا يعني كونها مؤكدة أنها ترتقي إلى درجة الواجب حتى نرهق أنفسنا في القيام بها فحكمها أنه يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها وهي كغيرها من السنن التي نقوم بها لمزيد الثواب بعد أن نكون قد قمنا بالواجبات المفروضة علينا وهي تسقط في حالة عدم القدرة عليها أو في حالة الحرج أو الضرر هذا إلى جانب أن الراغب في الثواب يوم العيد أمامه طرق كثية لتحصيله بنفس قيمة ثواب الأضحية أو ربما أكثر فصلاة العيد والصدقة والإصلاح بين الناس وزيارة الأهل والمحافظة على صلة الرحم...كلها أعمال جالبة للثواب.
قدرة شرائية
أما المسألة الثانية وأساسها اقتصادي واجتماعي فبالاتصال بوزارة الفلاحة وتحديدا بالقطاع المكلف بالثروة الحيوانية تحصلنا على مجموعة من البيانات المتعلقة بالسنوات الثلاث الأخيرة 2009 2010 2011 وملخصها ان استهلاك التونسيين طيلة السنة هو بمعدل مليون ومئة ألف رأس من الغنم وأن ما يقع استهلاكه في عيد الأضحى وحده هو مليون رأس من الغنم بمعنى أن ما نستهلكه في يوم واحد يقارب ما نستهلكه طيلة السنة أي في 365 يوما وبالعودة إلى خبراء الاقتصاد والتنمية في البلاد التونسية وهم خبراء على أعلى درجات الكفاءة العلمية والخبرة المهنية والعودة إليهم واجبة شرعا إذا أردنا بناء حكم شرعي على أسس علمية.
تحصلنا على التحليلات والنتائج التالية :
ان قانون العرض والطلب غير منتظم في هذا القطاع باعتبار أن قسطا كبيرا من العرض يوجه الى عيد الأضحى وهو ما يدل على عدم انتظام الطلب أيضا وهو ما يؤثر سلبا على الأسعار.
ان ما يقع ذبحه في عيد الاضحى لو أنه يوزع على طيلة السنة يصير لدينا مليونان من رؤوس الغنم تذبح موزعة على أيام السنة فيصير هنالك انتظام في قانون العرض والطلب وتنخفض الأسعار بنسبة 30 ٪ أو أكثر.
ان انخفاض أسعار اللحوم الحمراء بهذه النسبة يترتب عليه ضرورة انخفاض في جميع أسعار اللحوم الأخرى والأسماك وبالتالي انخفاض في جميع مواد الاستهلاك والتعذية مما يترتب عليه المحافظة على القدرة الشرائية للمواطن التونسي ويترتب عليه كذلك الحد من التضخم المالي وبالتالي المحافظة على قيمة العملة الوطنية.وهنا نجد أنفسنا في واقع يتكون من ثلاثة عناصر :
عيد الاضحى ورمزيته وما تعود عليه الناس من التضحية والاستهلاك القدرة الشرائية المتدنية الاقتصاد الوطني وحالة الاضطراب
وأمامنا حسب خبراء السياسة والاجتماع والاقتصاد ثلاثة احتمالات
الاحتمال الأول : أن يمارس الشعب التونسي أضحيته كما تعود في السنوات السابقة الاحتمال الثاني : أن يمتنع عن الأضحية امتناعا تاما في هذه السنة الاحتمال الثالث : الامتناع النسبي والحد من الأضحية
ولكل واحد من هذه الاحتمالات الثلاثة آثاره النفسية والاجتماعية والاقتصادية.
أما الاحتمال الأول فهو سيؤدي إلى استهلاك مليون رأس من الغنم في بضعة أيام مما يؤدي إلى نقص في عدد رؤوس الأغنام القابلة للذبح في باقي أيام السنة وبالتالي النقص في العرض مقارنة بالطلب وهو ما سيؤدي حتما إلى ارتفاع أسعار اللحوم بنسبة تفوق 30 ٪ عن الأسعار الحالية.
فإذا كان سعر اللحم اليوم هو 18 دينارا فانه بعد شهر من العيد سيرتفع إلى حوالي 24 دينارا مما يصير من المسحيل على ذوي الدخل الضعيف والمتوسط القدرة على شرائه علما وأن ارتفاع أسعار اللحوم الحمراء يؤدي حتما إلى ارتفاع أسعار اللحوم الأخرى والأسماك مما يتبعه بالضرورة ارتفاع أسعار بقية المواد الاستهلاكية وهو ما يزيد في تدني المقدرة الشرائية كما أن هذا الاحتمال دفع الحكومة إلى استيراد 100 ألف رأس من الغنم بقيمة 30 مليون دينار وهذا المبلغ لو أنه وقع توظيفه في إحداث مشاريع صغرى ومتوسطة لوفر ما لا يقل عن 1000 موطن شغل.
وأما الاحتمال الثاني وهو الامتناع عن الأضحية فهو احتمال صعب المنال بسبب تعود الناس وارتباط الأضحية بالجانب الديني. أما الآثار التي قد تنجر عنه فعديدة ومهمة ولها علاقة مباشرة بالفرد والمجتمع
فهو سيجنب البلاد إتلاف مليون رأس من الغنم في بضعة أيام وهو ما قيمته بين 300 و 400 مليون دينار. كما أن توزيع هذه الأغنام على طول السنة سيساعد على توفير اللحوم بالأسواق مما يؤدي إلى التوازن بين العرض والطلب فتنخفض الأسعار ونحافظ على المقدرة الشرائية كما أنه يجنبنا توريد الأغنام وبالتالي المحافظة على رصيدنا من العملة الصعبة وهذا الاحتمال لو أننا ننجح في تطبيقه سنكون قد حققنا المقصد الأعلى للتشريع وهو تحقيق المصلحة العليا والتي تتحقق بها مصلحة العباد والبلاد ولعلنا لو نقوم بذلك تصح في فعلنا قولة عمر بن الخطاب حين رأى الناس قد اجتمعوا على إمام واحد في صلاة التراويح حيث قال : «نعم البدعة تلك».
والحق أننا لن نكون مبتدعين بل نحن مسبوقون فقد دعا الملك الحسن الثاني الشعب المغربي سنة 1996 إلى عدم التضحية وذلك لأسباب بينها في رسالة توجه بها إلى شعبه ومما جاء فيها (...ومعلوم أن ذبح الأضحية إذا كان سنة مؤكدة فان إقامتها في هذه الظروف الصعبة لمن شأنه أن يتسبب في ضرر محقق بسبب ما سينال الماشية من إتلاف وما سيطرأ على أسعارها من ارتفاع يضر بالغالبية العظمى من أبناء شعبنا لاسيما ذوي الدخل المحدود منهم ومن القواعد الشرعية أنه :
إذا تعارض ضرران ارتكب أخفهما إن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة إن المشقة تجلب التيسير .
لا حرج
وإن القاعدة العظمى هي ما ورد في قوله تعالى : وما جعل عليكم في الدين من حرج) وقد ضحى جدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمته كما جاء في السنة حيث ورد انه ضحى بكبشين أملحين أقرنين فقال : هذا لنفسي وهذا عن أمتي واقتداء منا بسنته صلى الله عليه وسلم وتمسكا بمنهجه نهيب بشعبنا العزيز ألا يقيم شعيرة ذبح أضحية العيد في هذه السنة للضرورة وسنقوم إن شاء الله بأدائها نحن نيابة عنه فنضحي عن نفسنا وعن كل واحد من أبناء شعبنا احياء لسنة نبينا وعملا بأحكام شريعتنا).
أما الاحتمال الثالث وهو الامتناع النسبي عن الأضحية وصورته أن تشترك الجماعة من العائلات في الأضحية الواحدة. فإذا كان القيام بالأضحية سنة فان الاشتراك فيها كذلك هو سنة وقد ثبت ان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أشرك جميع أمته في الأضحية حيث قال : هذا لنفسي وهذا عن أمتي.
وقد قام الصحابة بذلك كما ورد في كتب الحديث فعن جابر بن عبد الله أنه قال: نحرنا مع رسول صلى الله عليه وسلم عام الحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة. وجاء في رواية أخرى من طريق أبي أيوب الأنصاري أنه قال : كنا نضحي بالشاة الواحدة يذبحها الرجل عنه وعن أهل بيته ثم تباهى الناس بعد فصارت مباهاة.
كما أن اشتراك الأسر المتعددة في الأضحية الواحدة يحقق لكل أسرة ما تريد فتحصل على ثواب الأضحية كاملا وتأخذ من اللحم ما يكفيها لعيدها وتقتصد في الإنفاق فتخرج من دائرة التبذير المحرم شرعا لقوه تعالى : (ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا) ولما كان المقصد الأعلى للتشريع الإسلامي تحقيق المصلحة للعباد والبلاد والأصل في ذلك (أينما وجدت المصلحة فثم شرع الله) ولما كانت المصلحة في عامنا هذا تقتضي منا المحافظة على الاقتصاد الذي هو من أهم روافد مناعتنا ولما كان ذلك لا يتحقق إلا بالمحافظة على مدخراتنا من العملة الصعبة وحماية ثرواتنا والاقتصاد في استهلاكها.
ولما كان الإسلام دين الوسطية والاعتدال فيلبي رغبات الروح والجسد ويهتم بالجوانب المادية والمعنوية في الذات الإنسانية فقد اتضح الرأي لدينا أنه لا يجوز للأسرة الواحدة أن تنفرد بالأضحية وأنه لا تصح الأضحية في هاته السنة إلا باشتراك المجموعة من العائلات.
فانه بذلك يتحقق جميع ما نريد من أداء شعيرة الأضحية والمحافظة على الاقتصاد العام والقدرة الشرائية للمواطنين مع ما يتحقق في الاجتماع من تقارب وتواصل وتصالح بين الناس وكل ذلك من المقاصد الأساسية من الاحتفالات الدينية والاسلامية.