على الرغم من التنبيه الى خطورة تكرار احداث العنف وتوسع دائرة الفوضى الاجتماعية في اكثر من مرة، على الرغم من ذلك فإنها (أي تلك الاحداث وتلك المظاهر) تشكل في مجموعها مخاضا عسيرا وصعبا تعيشه البلاد بحكم حجم التحول الجاري فيها نحو افق ديمقراطي وواقع حريات وكرامة ومساواة وعدالة تنموية بين الجهات والفئات. لقد كشفت الثورة لا فقط سلبيات الماضي ومظاهره الصعبة والمعقدة خاصة على المستوى السياسي والاقتصادي بل أفرزت أيضاً أشياء جديدة لها علاقة بقدرة التونسيين والتونسيات على العيش المشترك وعلى احترام الاختلاف في ما بينهم وعلى تغليب المصلحة العليا للوطن على حساب أية مصالح اخرى دونها.
انه مخاض التغير وارتجاج الوجدان الجمعي التونسي للبحث عن أقوم السبل لبناء المستقبل الأفضل والتأسيس للعدالة والمساواة وحقوق الانسان ودولة القانون والمؤسسات. ومع تقدم المسار تنكشف المزيد من الحقائق سواء على مستوى قناعات وسياسات الاحزاب والنخب او على مستوى الواقع المعيش للمواطنين، قد تكون بلادنا في حاجة فعلا الى مثل هذا المخاض لكي يتمايز الابيض عن الأسود ولكي تظهر حقائق الاشياء والأسماء والمواقع والجهات كما هي، وربما في ذلك خطوة مهمة على درب تشخيص الواقع التونسي والانطلاق منه الى وضع ما يتلاءم مع تطلعات الناس وانتظاراتهم وما يتناسب من خطط وبرامج لإصلاح الأخطاء وتجاوز الهنات وتنفيذ اهداف الثورة واستحقاقاتها.
قد تخسر البلاد البعض من الوقت ولكن تطورات الأوضاع ومستجداتها تؤكد انها على وشك الخروج النهائي من واقع الاضطراب والتردد والضبابية والمخاوف الى واقع أكثر أمنا واكثر استقرارا واكثر تفاؤلا بالمستقبل والغد الأفضل.
وربما من ابرز نتائج هذا المخاض الى حد الان ان الحرية لا تعني التسيب وان الحرية ستكون مهددة بالعنف والصدام اذا غاب القانون وان الديمقراطية لا يمكن ان تبنى بالتآمر او الإقصاء او العداء الايديولوجي المقيت وان الوصول الى السلطة لا يمكن ان يتم الا عبر الانتخاب وصناديق الاقتراع، كما ان التنمية والاستثمار والتشغيل وتطوير الأوضاع الاقتصادية لا يمكن ان تتحقق في أجواء الانفلات الأمني والفوضى والاحتجاجات الصبيانية او الخاضعة للتوظيف السياسي او النقابي.
انه مخاض مفروض وكان يمكن للأحزاب والنخب ان تتجاوزه ولكنه في النهاية يبدو مخاضا مهما ولافتا للنظر بما انه مثل مناسبة وفرصة فعلية ومتميزة لكي يعرف التونسيون جيدا حقيقة دولتهم ومؤسساتها ونخبها وأحزابها ونقاباتها بما سيمكنهم لاحقا من تمييز الغث من السمين واختيار الأصوب والأصلح والقطع مع كل اسباب الفوضى والتخريب.