عانى عدد من المناضلين التونسيين من اليسار التونسي مرارة السجون والتهميش والفقر لكنهم لم يتنازلوا عن مطالبهم في الحرية والديمقراطية. «محمد بن جنات» الإسم الأكثر شهرة من بين اليساريين التونسيين وتحديدا من الجيل الأول لحركة «آفاق» إذ كان وراء التحرّكات الشعبية التي عرفتها تونس في أواخر السبعينات بعد هزيمة جوان 1967 وقد بلغت شهرته الى حدّ أن الزعيم الحبيب بورقيبة ذكره بالاسم في أحد خطبه وهو الذي لم يكن يعير اهتماما بأي اسم آخر غيره. «محمد بن جنات» خرّيج جامع الزيتونة الذي «انشقّ» وتبنّى الفكر الماركسي اللينيني مبكرا «تسلّق الجبل برجل واحدة» كما قال عنه الشاعر نور الدين صمود ابن مدينته قليبية.
رحلة
الشريط الوثائقي الذي عرض في إطار أيام قرطاج السينمائية في دورتها الرابعة والعشرين أعدّه رضا بن حليمة في 55 دقيقة وكان رحلة في حياة محمد بن جنات منذ ولادته في قليبية الى حين رحيله وأربعينيته من خلال شهادات زوجته وشقيقته ورفاق دربه مثل «الشيخ» الهاشمي الطرودي ومحمد صالح فليس والدكتور حمادي صمود وبعض الحقوقيين والنقابيين الذين عاشوا معه عن قرب.
البعد الإنساني والثقافي والفكري والسياسي لمحمد بن جنات كان حاضرا بكثافة فهذا الرجل الذي لا يملك إلا ساقا واحدة صمد في السجن ولم يتخلّ عن أفكاره وتحول الى فرنسا متخفيا بعد مغادرته السجن ليكون أحد رموز الحركة الديمقراطية والحقوقية في العالم وعاد الى تونس مطلع الثمانينات مع الانفتاح الديمقراطي الذي قاده المرحوم محمد مزالي وعاش في تونس في ظروف صعبة أقرب الى الفقر إذ كان يحمل المسافرين في سيارته الصغيرة بين قليبيةوتونس دون رخصة حتى لا يمدّ يده لأحد وعلى الرغم من تواضع امكانياته المالية كان كريما وعزيز النفس كما أكد أصدقاؤه الذين كانوا يتجمّعون في بيته ويصل عددهم أحيانا الى الأربعين.
الثورة ووحدة اليسار
بعد الثورة كان محمد بن جنات الرمز التاريخي لليسار التونسي غير مرتاح لتشتّت اليسار والقوى الديمقراطية وكان على شبه يقين من هزيمة هذه القوى في الانتخابات لأنها لم تعرف تحديد الأولويات ولم تقدر بالضبط حساسية المسألة الدينية في المجتمع التونسي وخطورة إثارة بعض المواضيع التي قد تعتبر استفزازية بالنسبة الى بعض التيارات السياسية التي عرفت كيف تستغل هذا الجانب وتأليب الرأي العام ضد اليسار التونسي.
رحل محمد بن جنات بعد رحلة طويلة مع المرض لكن مسيرته الطويلة في النضال من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية مازالت حاضرة في الذاكرة التونسية وقد جاء هذا الشريط ليحيي ذكرى محمد بن جنات الزيتوني «المنشق» الذي أحبّ الحياة وهام بتونس وأخلص لها. رحم اللّه محمد بن جنات لقد أحياه هذا الشريط من جديد.