هل أصبحت تونس تعيش أزمة حكم في ظل الاتهامات المتكررة للحكومة بفشلها في إرساء نظام ديمقراطي يقوم على قضاء مستقل وأمن جمهوري وتُراعى فيه الكفاءة قبل الولاءات في التعيينات على رأس مؤسسات الدولة وفي ظل حالة الاحتقان الاجتماعي في أكثر من جهة؟ ما شهدته ولاية سليانة على امتداد الأيام الماضية من إضراب عام وعنف وإصابات بالمئات وحالة الغضب التي عاشها الشارع التونسي على خلفية أحداث سليانة هو في جانب كبير منه نتاج حالة عدم الرضا على الأداء الحكومي ومن بين أكثر النقاط التي تُؤاخَذ عليها الحكومة وحركة «النهضة» تحديدا مسألة التعيينات واعتماد منطق «الغنيمة» والمحاصصة الحزبية والولاءات الحزبية في تعيين إطارات الدولة وممثلي السلطة في الجهات.
مؤاخذات واتهامات
الحديث عن سيطرة حركة «النهضة» على مفاصل الدولة والتحفظات التي يبديها كثيرون على التعيينات بدأت منذ أشهر وكانت موجهة خصوصا من طرف المعارضة بمختلف ألوانها لكن الأمر تطوّر ليشمل أيضا شريكي «النهضة» في حكومة «الترويكا». فالخطاب الذي توجه به رئيس الجمهورية محمد المنصف المرزوقي الليلة قبل الماضية إلى الشعب التونسي على خلفية حالة الاحتقان الذي تعيشه سليانة لم يخل من نبرة انتقاد للأداء الحكومي الذي قال إنه لم يرتق إلى انتظارات الشعب واستحقاقات الثورة. المرزوقي دخل مرحلة التمايز عن الائتلاف الحاكم حين دعا إلى تشكيل حكومة مصغرة تتولى إدارة المرحلة اعتمادا على الكفاءات الوطنية لا على منطق الولاءات الحزبية، وهذه الرؤية تختلف تماما مع رؤية حركة «النهضة» التي تحدثت كثيرا عن التحوير الوزاري وعن ضرورة توسيع الائتلاف الحاكم دون أن تبدي استعدادا للتنازل عن وزارات السيادة خصوصا وهو مطلب ملحّ من طائفة واسعة من المعارضة أو هو شرطها للدخول في مفاوضات مع الحكومة الحالية قصد إجراء التعديلات اللازمة.
ويمثل ما جاء في خطاب المرزوقي رسالة واضحة إلى حركة «النهضة» بضرورة تغيير إستراتيجية عملها خلال المرحلة القادمة إذا كانت جادة في خلق مناخ سياسي واجتماعي سليم وملائم لإجراء الانتخابات القادمة قبل فصل الصيف المقبل حسب تأكيد الرئيس. وكان المرزوقي وجه رسالة أولى إلى «النهضة» قبل أشهر في كلمته في افتتاح المؤتمر الثاني لحزب المؤتمر حين اتهمها بمحاولة السيطرة على عدد من مفاصل الدولة» وهو ما خلق حينها حالة صدمة داخل الائتلاف الحاكم وجدّد المرزوقي اتهامه في حوار لإحدى الصحف الفرنسية بعد أسابيع من اتهامه الأول لكنه أضاف في ذلك الحوار مستدركا «لكن حالما نحذرهم يقومون بالتراجع». من جانبه عبّر عدنان منصر عضو المكتب السياسي لحزب المؤتمر من أجل الجمهورية عن تخوّفات رئيس الجمهورية من تغوّل حركة النهضة وسيطرتها على الحياة السياسية وقال إنّ «انتقادنا لحركة النهضة هو من منطلق حرصنا على سلامة مسار الانتقال السياسي». وقبل أسبوع اتهم وزير الشؤون الاجتماعية والقيادي في حزب التكتل خليل الزاوية خلال اجتماع لحزبه بصفاقس حركة النهضة بالتغول ومحاولة السيطرة على مفاصل الدولة، لكن حركة «النهضة» أكّدت أنها ستسائل الزاوية عن هذا الاتهام في إطار تنسيقية «الترويكا».
السيطرة أم الحكم؟
السيطرة على مفاصل الدولة هل تعني بالضرورة المسك بمقاليد الحكم والقدرة على الحكم والنجاح في مهمة إدارة شؤون الدولة؟ وهل أن مخاوف شريكي «النهضة» في الحكم والمعارضة من تغول هذا الحزب له ما يبرّره على هذا الأساس؟
البعض يرى أنّ النجاح في الحكم يعني تعيين الكفاءات في مراكز القرار وفي المسؤوليات الحكومية والإدارية وأساسا منها الوزراء والولاة ومن هذا المنطلق يمكن القول إنّ الحكومة الحالية سعت إلى السيطرة على هذه المراكز دون أن تنجح في بسط نفوذها خصوصا في الجهات التي تشهد توترا وحراكا اجتماعيا تقول الحكومة إنّ أحزابا تتخفى وراء اتحاد الشغل تدفع نحوه وتعتبره المعارضة دليل فشل هذه الحكومة في التعاطي مع الملفات الاقتصادية والاجتماعية في الجهات.
ويتفق كثيرون على أنّ جانبا كبيرا من الولاة الذين تم تعيينهم يفتقدون الخبرة والدراية بإدارة الشأن العام وقد يكون هذا الأمر طبيعيا بحكم سيطرة الحكم الواحد والحزب الواحد على مفاصل الدولة على امتداد اكثر من نصف قرن وبالتالي فإنه لا أحد من الموجودين اليوم في المشهد السياسي له القدرة على إدارة شؤون دولة فضلا عن أنّ للمراحل الانتقالية خصوصيتها وحساسيتها كما أنّ الملفات المطروحة على طاولة السلطة القائمة اليوم كثيرة وتتطلب معالجة عاجلة خصوصا في ضوء الضغط الشعبي وضغط المعارضة من داخل المجلس التأسيسي وخارجه.
ويرى متابعون للشأن السياسي في تونس أنّ الخطأ وُجد منذ الانتخابات الأخيرة حيث منحت الترويكا الحكم وبقيت سائر الأحزاب في المعارضة في حين أن المرحلة انتقالية وليست دائمة وإنّ الأحداث هي التي دفعت الترويكا الى الحكم ويبقى هذا الطرح قابلا للتأويل بما أنّ المرحلة التي تلت انتخابات 23 أكتوبر 2011 شهدت مشاورات بين النهضة والتكتل والمؤتمر حول تقاسم السلطات بمبادرة من الحزب الفائز بأغلبية المقاعد في المجلس التأسيسي (النهضة). وهذا يعني أنّ هذا الحزب تصرّف على أساس أنّ الانتخابات تشريعية وليست تأسيسية فبادر بترشيح أمينه العام (حمادي الجبالي) لرئاسة الحكومة وانطلقت المشاورات على هذا النحو في وقت أبدت فيه مختلف المكونات السياسية التي لم تحصل على نسبة مريحة في الانتخابات رفضها المطلق الانخراط في تلك المشاورات واختارت صف المعارضة فانقسم المشهد السياسي منذ البداية بشكل خاطئ بين ائتلاف حاكم ومعارضة.
روافد الحكم
وقد كان الائتلاف الحاكم يعي منذ البداية حجم المشاكل التي غرقت فيها البلاد ويعلم حجم التحديات التي تواجهه في هذه المرحلة، لكن حركة «النهضة» التي تقود هذا الائتلاف بدا أنّ استحقاقات ممارسة الحكم قد غابت عنها فالسلطة لا تعني الحكم لا بد من وجود روافد أخرى هي أساسا الرأي العام والمجتمع المدني والقضاء المستقل والأمن الجمهوري، وبالتالي كان على الحركة أن تعمل على تثبيت هذه الروافد وعلى كسب ثقة الرأي العام والمجتمع المدني عبر تكريس استقلالية القضاء والعمل على أن يكون الأمن جمهوريا في خدمة الشعب وهو ما كان سيوفر لها مناخا مستقرا للعمل وإنجاح هذه المرحلة الحساسة من مراحل الانتقال الديمقراطي.
ويبقى الصراع متواصلا بين الترويكا والمعارضة بخصوص التحكم في مفاصل الدولة وفي هذا الإطار تأتي الدعوة إلى تحييد وزارات السيادة وأساسا وزارتي الداخلية والعدل، لكن السؤال الذي يبقى مطروحا هل أنّ الترويكا قابلة للتقييم الذي تقدمه المعارضة وتسوقه للرأي العام أم أنّ الحسابات السياسية والاعتبارات الانتخابية هي المحدّد لموقف كلّ طرف ومن ثمة فلا أمل في التغيير والاستماع إلى الرأي المخالف ولا يمكن حينئذ الحديث عن حوار وطني؟
الأرجح أنّ الحسابات السياسية باتت طاغية على كلّ طرف وأنّه من الصعب أن ترضخ الحكومة الآن وأن تقبل ب «تنازلات» أخرى خاصة أنّ شقا من أنصارها يتهمونها بالتراخي وعدم المحاسبة ممّا أدّى بها إلى هذ الدرجة من الضعف والرضوخ للمطالب... ما يؤكّد هذا التوجه هو ما قاله رئيس الحكومة في أوج أزمة سليانة من أنّ الوالي لن يغادر بل إن مغادرته هو منصب رئاسة الحكومة تبدو أقرب.