قال صاحبي : كيف كان شعورك بعد ظهر أمس الأول قبل الحسم، وإعلان قرار إلغاء الإضراب العام، أسألك لأنني أعرف أنك ناضلت في مرحلة سابقة في صفوف الاتحاد، وأعرف كذلك أنك مؤمن شديد الايمان بالحوار من جهة، وبرسالة قوى المجتمع المدني في الذود عن الحريات العامة، و مقاومة الاستبداد من جهة ثانية؟ قلت: لا أكتمك سرا أنني كنت قلقا إلى آخر ساعة، ثم غمرني شعور الاطمئنان لما سمعت نبأ القرار الشجاع، وقد توقعته رغم القلق، إذا أنني أعرف مدى حرص القيادة النقابية على المصلحة الوطنية.
إن الحركات النقابية العريقة تدرك جيدا أن الإضراب العام مسؤولية خطيرة وخطرة في ذات الآن، ولا تلتجئ إليه إلا في حالات الضرورة القصوى، وهي في جل الأحيان ليس من اجل مطالب نقابية بحتة، بل أساسا ذودا عن الحريات العامة، وتصديا لمحاولات الهيمنة، و التراجع في مكاسب المجتمع. كان القرار الأول تعبيرا عن مدى انتشار ظاهرة الفزع التي تفشت في صفوف المواطنين خوفا من الفوضى والعنف، وإبلاغهم بان القوة الوطنية الأولى قادرة على الصمود و التحدي، وجاء القرار الثاني ليعلن إيمان الاتحاد بلغة الحوار، وإعطاء الأولوية لمصلحة الوطن. قال صاحبي: من أغرب ما سمعت هذه الأيام ممن يتحمل مسؤولية سياسية اتهام الاتحاد بأنه تجاوز حدوده النقابية البحتة ليهتم بالسياسة !! قلت لم أسمع غباوة سياسية تثير الضحك أكثر من هذه البدعة الجديدة، هذا جهل بالتاريخ الوطني والعالمي.
أنا أتحدى هنا أي مؤرخ يستطيع أن يبرهن بالحجة أن حركة نقابية عريقة مثل الحركة التونسية سجنت نفسها في مطلبية «خبزية»، وتجاهلت ما يدور حولها من قضايا وطنية كبرى، وصراع سياسي. إن الاتحاد الممثل للقوة المنتجة في البلاد لا تعنيه حسب هذا المنطق مرحلة الانتقال الديمقراطي، ولا يعنيه كيف، وأين سترسو السفينة المترنحة، سفينة الوطن! هل سمعت كلاما أكثر بلاغة من هذا الكلام !
قلت لك مرة إن السياسي الذي لا يقرأ تاريخ بلاده، وتاريخ العالم يكون فاشلا ودوغمائيا. من يكون ملما، ولو قليلا، بتاريخ تونس المعاصر يدرك أن الحركة النقابية قد أطلت من رحم النضال من أجل التحرير والاستقلال، وولدت في أحضان الصراع السياسي الاجتماعي ابتداء من حركة محمد علي الحامي حتى اليوم ، فلم يمر سوى بضعة شهور على تأسيس الاتحاد قبل ستين عاما حتى شارك في مؤتمر ليلة القدر الذي أعلنت فيه وثيقة الاستقلال التام، ولما بدأت المرحلة الحاسمة في حركة التحرير الوطني عام 1952، وسجنت القيادة السياسة حمل الاتحاد المشعل،ولم تخطط القوى الاستعمارية اغتيال الشهيد حشاد،لأنه كان زعيما نقابيا،بل لأنه كان زعيما وطنيا، وقائدا من قادة الحركة الاستقلالية.
حسب منطق هذا الخطاب البدعة الذي يؤاخذ الاتحاد على اهتمامه بالسياسة فان قياداته محليا، جهويا، ووطنيا التي احتضنت الثوار، ونظمت صفوفهم كانت مخطئة، مخطئة كذلك لما فتحت أبوابها وصدورها في سنوات الجمر لكل المناضلات والمناضلين في سبيل الحرية !
الاتحاد ليس «جمعية خيرية» كما يتمنون أن يحولوه بل هو قوة وطنية تمتد جذورها النضالية إلى عشرينات القرن الماضي، قوة ساهرة على حراسة البلاد و العباد.