• قال صاحبي: استغرب أصدقاء هذا الحوار من بروز تيار ضمن الجيل الأول المؤسس رفع أصحابه مقولة «إنما هذا السواد بستان لقريش»، أي إن السلطة الجديدة، وبما ارتبط بها من مزايا قد أصبحت غنيمة يتصرفون فيها كما يريدون،فهل من إمكانية لإلقاء أضواء جديدة؟ • قلت: إن القضية تثير الاستغراب فعلا، ولا يمكن فهمها إلا إذا نزلت في ظرفيتها التاريخية، متسائلا في هذا الصدد: ما هي النظم التي عرفها الناس يومئذ؟ عرفوا السلطة القبلية القرشية في الجزيرة، والحكم الإمبراطوري البيزنطي، والساساني على حدودها، وقد حلمت أرستوقراطية قريش أن تؤسس حكما إمبراطوريا شبيها بالنظامين المجاورين.
إن السمة البارزة لأنماط السلط الثلاث هي حكم السادة للعبيد والموالي. بشرت الدعوة الإسلامية بقيم جديدة نجد في مقدمتها مقاومة الظلم، ونصرة المستضعفين في الأرض، فليس من الصدفة إذن أن ينحدر جلّ المسلمين الأوائل في المرحلة المكية من فئة العبيد، ولم تذكر المصادر إلا القليل منهم، إذ أنها ركزت على السادة، ولا غرابة في ذلك بالنسبة إلى ذهنية عصر التدوين، وتذكر المصادر أن كثيرا من سكان المناطق المجاورة قد رحبوا بالفاتحين الجدد لما حملوه معهم من قيم، وأدرك كل من أبي بكر، وعمر (ر.ع.) خطورة المحافظة على القيم الجديدة للتغلب على العقلية القبلية، وتأسيس أمة جديدة يتم التميز فيها بالإخلاص لقيم الدعوة، وليس بالمنحدر القبلي، وقد تزامن هذا المشروع العمري مع انضمام جيل جديد إلى صفوف الدعوة، وهو الذي مثله النازحون إلى عاصمة الدولة الناشئة، وإلى الأمصار الجديدة، وهم الذين قال عنهم الإمام علي لما عجز أن يخترق صفوفهم ليصل إلى منزل عثمان المحاصر: أصبحوا يملكوننا، ولا نملكهم، ونجد ضمن الثوار العبيد والموالي، وتسميهم المصادر بروادف ردفت، أو بالنابتة، أي النشء الجديد.
هذا الجيل الجديد فاجأهم التحول الجذري الذي حصل في خلافة عثمان (ر.ع.)، وجاء متناقضا كل التناقض مع قيم الدعوة الجديدة، وقد أخلص سلفاه في تطبيقها، وأبرز معالم التحول مست التصرف في المال العام، وكأنه مال خاص.
• قال صاحبي: كيف كان تأثير ذلك في العصور اللاحقة؟
• قلت: كان سلبيا إلى حد بعيد، وليس من المبالغة القول إنه مثل جرحا عميقا في جسم الأمة الناشئة، وأجهض المشروع العمري، بل إن تأثيره امتد حتى اليوم، وما نقف عليه اليوم من صراع سني شيعي فإن جذوره تعود إلى ما جاء بعد الانتفاضة الشعبية في المدينة من انتفاضات أخرى تصطبغ بصبغة ذلك العصر، وأعني الصبغة الدينية، ولكن لبّها سياسي اجتماعي، ونذكر هنا بثورة الربض بقرطبة، وثورة الدراهم بالقيروان أيام الأغالبة، وثورة صاحب الحمار، وثورة الزنج، وانتفاضات القرامطة، وغيرها من الانتفاضات.
إن محتواها سياسي اجتماعي بغطاء ديني، أما الانتفاضات التي ترفع اليوم شعارات دينية فهي ثورات مضادة، وذلك من مفارقات الزمان.
لعلك تستغرب، ولا تصدق عندما أقص عليك قصة لم ترو لي، بل عشتها شخصيا في إحدى الأقطار العربية النفطية عندما جرى حديث مع الحاضرين من البلد عن أوضاعهم السياسية والاجتماعية، ملاحظا ما رأيته من مظاهر فقر وتخلف في بلد يسبح فوق بحر من النفط، فأجاب أحدهم بعد أن تأكد من عدم وجود أحد الوشاة في المجلس قائلا: إن الأسرة الحاكمة تعتبر الثروة النفطية ملكا خاصا بها، وما تنفق منه على البلد هو منة وعطاء، فالذهنية، كما ترى هي نفسها التي عبر عنها أحد زعماء بني أميّة قبل أربعة عشر قرنا قائلا: «إنما هذا السواد بستان لقريش»!