مع عودة التحكيم الأجنبي.. تعيينات حكام الجولة 5 "بلاي أوف" الرابطة الاولى    استقالة متحدثة من الخارجية الأميركية احتجاجا على حرب غزة    الرابطة الأولى.. تعيينات حكام مباريات الجولة الأولى إياب لمرحلة "بلاي آوت"    ماذا في لقاء سعيد برئيسة اللجنة الوطنية الصلح الجزائي..؟    أخبار المال والأعمال    سليانة .. رئس الاتحاد الجهوي للفلاحة ...الثروة الغابية تقضي على البطالة وتجلب العملة الصعبة    وزير السّياحة: تشجيع الاستثمار و دفع نسق إحداث المشاريع الكبرى في المجال السّياحي    «الشروق» ترصد فاجعة قُبالة سواحل المنستير والمهدية انتشال 5 جُثث، إنقاذ 5 بحّارة والبحث عن مفقود    تنزانيا.. مقتل 155 شخصا في فيضانات ناتجة عن ظاهرة "إل نينيو"    زيتونة.. لهذه الاسباب تم التحري مع الممثل القانوني لإذاعة ومقدمة برنامج    لدى لقائه فتحي النوري.. سعيد يؤكد ان معاملاتنا مع المؤسسات المالية العالمية لابد ان يتنزل في اختياراتنا الوطنية    اليابان تُجْهِزُ على حلم قطر في بلوغ أولمبياد باريس    سوسة.. دعوة المتضررين من عمليات "براكاجات" الى التوجه لإقليم الأمن للتعرّف على المعتدين    إثر الضجة التي أثارها توزيع كتيّب «سين وجيم الجنسانية» .. المنظمات الدولية همّها المثلية الجنسية لا القضايا الإنسانية    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    حركة النهضة تصدر بيان هام..    بالثقافة والفن والرياضة والجامعة...التطبيع... استعمار ناعم    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    تراجع الاستثمارات المصرح بها في القطاع الصناعي    جندوبة.. المجلس الجهوي للسياحة يقر جملة من الإجراءات    منوبة.. الإطاحة بمجرم خطير حَوّلَ وجهة انثى بالقوة    برنامج الجولة الأولى إياب لبطولة الرابطة الاولى لمحموعة التتويج    اقتحام منزل وإطلاق النار على سكّانه في زرمدين: القبض على الفاعل الرئيسي    قبلي: السيطرة على حريق نشب بمقر مؤسسة لتكييف وتعليب التمور    الفنان رشيد الرحموني ضيف الملتقى الثاني للكاريكاتير بالقلعة الكبرى    من بينهم أجنبي: تفكيك شبكتين لترويج المخدرات وايقاف 11 شخص في هذه الجهة    البطلة التونسية أميمة البديوي تحرز الذهب في مصر    مارث: افتتاح ملتقى مارث الدولي للفنون التشكيلية    تحذير من هذه المادة الخطيرة التي تستخدم في صناعة المشروبات الغازية    وزيرة التربية : يجب وضع إستراتيجية ناجعة لتأمين الامتحانات الوطنية    وزارة التعليم العالي: تونس تحتل المرتبة الثانية عربيًّا من حيث عدد الباحثين    سليانة: أسعار الأضاحي بين 800 دينار إلى 1100 دينار    الرئيس الفرنسي : '' أوروبا اليوم فانية و قد تموت ''    تتويج السينما التونسية في 3 مناسبات في مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة    جريمة شنيعة: يختطف طفلة ال10 أشهر ويغتصبها ثم يقتلها..تفاصيل صادمة!!    قبلي : اختتام الدورة الأولى لمهرجان المسرحي الصغير    باجة: تهاطل الامطار وانخفاض درجات الحرارة سيحسن وضع 30 بالمائة من مساحات الحبوب    وزير الشباب والرياضة يستقبل اعضاء فريق مولدية بوسالم    الڨصرين: حجز كمية من المخدرات والإحتفاظ ب 4 أشخاص    قيس سعيّد يتسلّم أوراق اعتماد عبد العزيز محمد عبد الله العيد، سفير البحرين    الحمامات: وفاة شخص في اصطدام سيّارة بدرّاجة ناريّة    التونسي يُبذّر يوميا 12بالمئة من ميزانية غذائه..خبير يوضح    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم الخميس 25 أفريل 2024    سفينة حربية يونانية تعترض سبيل طائرتين مسيرتين للحوثيين في البحر الأحمر..#خبر_عاجل    بطولة مدريد للماسترز: اليابانية أوساكا تحقق فوزها الأول على الملاعب الترابية منذ 2022    كاس رابطة ابطال افريقيا (اياب نصف النهائي- صان داونز -الترجي الرياضي) : الترجي على مرمى 90 دقيقة من النهائي    هام/ بشرى سارة للمواطنين..    لا ترميه ... فوائد مدهشة ''لقشور'' البيض    أكثر من نصف سكان العالم معرضون لأمراض ينقلها البعوض    الجزائر: هزة أرضية في تيزي وزو    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    تونس: نحو إدراج تلاقيح جديدة    هوليوود للفيلم العربي : ظافر العابدين يتحصل على جائزتيْن عن فيلمه '' إلى ابني''    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التقاه خالد الحداد : الأستاذ جلول عزونة ل «الشروق» - الثورة أنضجت الفكر التونسي... وارتقت به
نشر في الشروق يوم 21 - 01 - 2013

«المنتدى» فضاء للتواصل مع قراء الشروق بصيغة جديدة ترتكز على معرفة وجهات نظر الجامعيين والأكاديميين والمثقفين حيال مختلف القضايا والملفات ووفق معالجات نظريّة فكريّة وفلسفيّة وعلميّة تبتعد عن الالتصاق بجزئيات الحياة اليوميّة وتفاصيل الراهن كثيرة التبدّل والتغيّر، تبتعد عن ذلك الى ما هو أبعد وأعمق حيث التصورات والبدائل العميقة اثراء للمسار الجديد الّذي دخلته بلادنا منذ 14 جانفي2011.

اليوم يستضيف «المنتدى» الاستاذ جلول عزونة المختص في الادب واللغة الفرنسية بالجامعة التونسية وصاحب عدد من الاصدارات والناشط الادبي ضمن رابطة الكتاب الاحرار وهو سياسي راكم تجارب مهمة جدا على مستوى فهم الواقع التونسي طيلة العقود المنقضية.

وقد سبق للمنتدى أن استضاف كلا من حمادي بن جاب الله وحمادي صمّود والمنصف بن عبد الجليل ورضوان المصمودي والعجمي الوريمي ولطفي بن عيسى ومحمّد العزيز ابن عاشور ومحمد صالح بن عيسى وتوفيق المديني وعبد الجليل سالم ومحسن التليلي ومحمود الذوادي ونبيل خلدون قريسة وأحمد الطويلي ومحمد ضيف الله والمفكر العربي الافريقي رشاد أحمد فارح واعلية العلاني وجمال بن طاهر وجمال الدين دراويل وكمال عمران وجمعة شيخة والدكتور ابو لبابة حسين ومحمد حسين فنطر ومحمود طرشونة ومحمد كمال الدين قحة الّذين قدموا قراءات فكريّة وفلسفيّة وسياسيّة معمّقة للأوضاع في بلادنا والمنطقة وما شهدته العلاقات الدولية والمجتمعات من تغيّرات وتحوّلات وبامكان السادة القراء العودة الى هذه الحوارات عبر الموقع الالكتروني لصحيفتنا www.alchourouk.com والتفاعل مع مختلف المضامين والأفكار الواردة بها.

انّ «المنتدى» هو فضاء للجدل وطرح القضايا والأفكار في شموليتها واستنادا الى رؤى متطوّرة وأكثر عمقا ممّا دأبت على تقديمه مختلف الوسائط الاعلاميّة اليوم، انّها «مبادرة» تستهدف الاستفادة من «تدافع الأفكار» و«صراع النخب» و«جدل المفكرين» و»تباين قراءات الجامعيين والأكاديميين من مختلف الاختصاصات ومقارباتهم للتحوّلات والمستجدّات التي تعيشها تونس وشعبها والانسانيّة عموما اليوم واستشرافهم لآفاق المستقبل.وسيتداول على هذا الفضاء عدد من كبار المثقفين والجامعيين من تونس وخارجها، كما أنّ المجال سيكون مفتوحا أيضا لتفاعلات القراء حول ما سيتمّ طرحه من مسائل فكريّة في مختلف الأحاديث (على أن تكون المساهمات دقيقة وموجزة في حدود 400 كلمة) وبامكان السادة القراء موافاتنا بنصوصهم التفاعليّة مع ما يُنشر في المنتدى من حوارات على البريد الالكتروني التالي:
news_khaled@ yahoo.fr

ماذا تحقق بعد سنتين من الثورة؟

إذا ما نظرنا بدقّة الى ما يتمتع به التونسي اليوم بعد سنتين اثنتين من فرار الرئيس المخلوع فإننا سنجد أشياء كثيرة مهمة جدا:

أ من الناحية السياسية: ما صرنا نتنسّمه من حرية وانعتاق وما نتنفّسه من أكسيجين حرمنا منه طيلة عقود، فصارت ألسنتنا مطلقة في التعبير وزال الخوف من أدمغتنا، وشارك جلّ المواطنين في الحراك الاجتماعي والسياسي وفي النقاش الدائر يوميا، في العائلة والحافلة وفي وسائل الاعلام بكل تفرّعاتها وفي الادارة، فربحت تونس قفزة نوعية جدا في سلّم المواطنة وما معنى المواطنة إن لم تكن أصلا الاهتمام بالشأن العام والاهتمام بالمصالح العامة والنقاش حول أهم الحلول للمشاكل القائمة وإبداء الرأي حول كل ذلك وحمل الهم الجماعي شعورا بالمسؤولية التامة ومساهمة في اقتراح البدائل، فالثورة أنضجت بحق الفكر العام وساهمت في الارتقاء بالتونسي من شبه اللامبالاة الى الهوس بالشأن العام، وهذا مكسب لا يقدّر بثمن ولا يمكن أن يتمّ إلا بالثورة وفي هذه اللحظات التاريخية التي تتيح الفرص بما تراكم من نضالات وتضحيات ودماء للإرادة الجماعية بأن تبرز وتقرّر القطع مع فترة فاسدة والانطلاقة نحو فترة بناء جديدة، ديدنها الحلم بالأحسن فالأحسن، وضرورة التجاوز الآني والمتجدّد لكلّ المعوقات والعراقيل، وهذا ما عشناه فعلا ولا نزال نعيشه الى الآن رغم بعض المنغّصات والانتكاسات، وهذا ديدن اللحظات التاريخية المصيرية والتي لا تتجدّد إلا قليلا.

ب أما اقتصاديا: فالمشهد مخالف تماما، فالاعتصامات العشوائية لقطع الانتاج في ميادين حيوية كالفسفاط وفي المصانع الكيميائية وغلق المعامل وقطع الطرق والسكك الحديدية، وحرق مقامات الأولياء الصالحين، كل ذلك انعكس سلبا على الانتاج وتوفير الخيرات، وزاد المشهد قتامة الدور السلبي لتهريب السلع وغلاء أسعار الأعلاف مثلا، مما ضاعف في انخرام المقدرة الشرائية للمواطن والنمو المطرد للتضخّم المالي وتدهور قيمة الدينار، مع ضعف واضح لجهاز الأمن والقضاء والديوانة والدولة بصفة عامة، مما اضطرّ الحكومة للتداين الخارجي.

وهذا السيناريو وإن كان متوقعا في زمن الثورة فإن الحلول التي اقترحت للخروج من هذا المأزق، مأزق تفاقم المديونية وتفاقم عجز الميزان التجاري وكثرة الطلبات لتحسين مقدرة العمال والموظفين، لم تكن موفقة حسب رأينا، وذلك في غياب سياسة اسشرافية واضحة، لا هي قضت على البطالة ولا قلّصت من حدّتها من ناحية ولا هي استخلصت الدروس البليغة التي عرفتها بلادنا تونس في أواخر القرن التاسع عشر، حين أفسلت الدولة وارتهنت سيادتها بأيدي المقرضين الأجانب، ولا هي استفادت من تجارب بلدان قريبة منّا وتعيش مصاعب مشابهة لمصاعبنا كاليونان مثلا، للك نبقى متشائمين، اقتصاديا، في مستهل سنة 2013 وحسب اختيارات ميزانية السنة الحالية وتوجهاتها العامة والتي ارتأت حلولا ترقيعية مؤقتة لمشاكل هيكلية عميقة الاختلال، وهذا التشاؤم ينطبق أيضا على السنوات القادمة وذلك حسب رأينا وقناعاتنا لغياب حلول اقتصادية واجتماعية بديلة تقطع مع اختيارات عهد بن علي، وتوجّه اختياراتنا الاقتصادية وجهة جديدة تضع في الاعتبار المطلب الأول للثورة: الكرامة والتشغيل، وذلك بالاعتماد الأول على مقدراتنا الذاتية، وتقليل المديونية الخارجية وإطلاق برامج قروض وطنية وإعادة توزيع أعدل للثروات، والانكباب على مطالب الجهات المحرومة والشباب المعطل كأولوية الأولويات وهذا يتطلب وعيا سياسيا حادا بطبيعة المرحلة وبالملابسات العالمية وببوادر الأزمة الاقتصادية العالمية التي مسّت أمريكا وأوروبا وكل هذا يتطلب إعادة النظر في منوال التنمية.
ولعلّ في عدم تصويت المجلس التأسيسي على قانونين اثنين، طيلة سنة 2012، أحسن دليل على فقدان الأغلبية الحاكمة اليوم للحسّ الثوري:

أولا: حين رفض المجلس مشروع قانون يعفي صغار الفلاحين من ديونهم المحدودة أصلا وإعفائهم من الفوائد والخطايا.

ثانيا: حين رفض المجلس كذلك التصويت على مشروع قانون يحارب التهرّب الجبائي بشكل جدي وحازم ويضاعف الأداءات على الثروات بحسب ارتفاعها.

إن هذا التمشي يؤكد بما لا يدع أي مجال للشك بأن الحكومة الثلاثية الحالية تواصل نفس النهج الاقتصادي لحكومات بن علي وبورقيبة وأنها لم تفهم المغزى العميق للثورة، وهو القطاع مع المنوال القديم من أجل استنباط منوال جديد، لا يمكن أن يكون إلا تشاوريا، توافقيا وتشاركيا يتجاوز منطق الأغلبية والأقلية، في هذه المرحلة الانتقالية على أقل تقدير.

ج اجتماعيا:

إن الحراك الاجتماعي الهائل الذي عاشته وتعيشه بلادنا الآن وهذا الغليان المفرط، فهو وإن تجاوز الخطوط الحمراء في كثير من الأحيان، إلا أنه دليل على حيوية الشعب التونسي وكبر الطموحات لديه، وهذا لعمري شيء إيجابي جدا في شعب شاب ومثقف، أثار إعجاب العالم كلّه لمدنيته ونضجه وعمق رؤاه وطول نظرته الاستشرافية التي تسبق الأهم على المهم وعلى ذكاء أفراده نساء ورجالا. إنّ كل هذه الخصال مجتمعة في الشعب التونسي جعلته لا يقبل بعض أطروحات الساسة الذين لم يتشبّعوا بما فيه الكفاية لعمق هذه الطموحات، فصاروا يسفسطون ويدمغجون ويبرّرون اختياراتهم معتقدين غلطا أن ما يقومون به سينطلي على عقول شباب يقظ ومتعلّم وعلى عقول كهول وشيوخ حملوا في جيناتهم حكمة الأزمنة والدهور، وعمق الرؤى التي ترسّبت فيهم منذ قرون وهم يهضمون الأديان واللغات والحضارات المختلفة والتجارب الأليمة والمآسي العميقة التي عاشوها في لحمهم وعظامهم وأرواحهم، فاكتسبوا حنكة وحكمة وحاسّة سادسة وفكرا نقديا متحفّزا، لا يمكن لخطابات سياسية مرتجلة أن تخرق تلك التحصينات التاريخية وذلك الحدَس الطبيعي فيهم، فتراهم يشكّون ويتساءلون ويعيشون حيرة قصوى، لذلك تراهم في عمق أعماقهم يغربلون ما يقال لهم وما يقدم إليهم من مشاريع، لأنهم ملّوا قرونا من الوصاية والمشاريع المسقطة، ولا ينتظرون إلا من يشرّكهم فعلا في البحث عن الحلول ويترك لهم مجالا حقيقيا في استنباط الخيارات وفي شقّ الطرق وفي تحمّل المسؤولية كاملة غير منقوصة.. وهذا غير متوفر الآن، ويا للأسف، لطغيان الخيارات الحزبية والقناعات الايديولوجية، التي كثيرا ما لا تتماشى وتعقيدات الواقع وتشعّب مسالكه وغموض معطياته وتشابكها.

لكل هذا، فإن ما تحقق مهم ولا شك، سنتان بعد الثورة، ولكنه دون المأمول بكثير ودون سقف المطالب والطموحات والأحلام، وما تحقّق لم يرتق، بصفة تكاد تكون مطلقة، الى حجم النقائص وحجم درجة الفساد الذي عمّ كل الميادين، ومما زايد الأمر مأساويا أن رجال الحكم الآن، غيّروا في الأولويات وعوض الكرامة والتشغيل، جعلوا همّهم الأول والأوحد، التمكّن من السلطة ومن دواليب الدولة، فكان الاضطراب والنكوص على العهود والتعهدات وكان الاضطراب وسوء الفهم والتناقض المطلق بين شعارات الثورة الواضحة والنوايا الحقيقية والتي تعرّت وانفضح أمرها.

كيف تنظرون الى مستجدات الساحة العربية خصوصا بعد الثورات العربية وربيعها؟

لئن بدأ الحراك مبكّرا في الجزائر وما آل إليه من حرب أهلية ومآس، ثم كان ما كان من محاسبة ومصالحة في المغرب، توقف طريقها بعد انطلاقة مبشرة بكل خير، فإن ثورة شباب تونس، ومصر وليبيا واليمن والأردن وسوريا والحراك في البحرين وفي السعودية وفي الكويت وبدء نهضة الضمير الأدبي والشعري في قطر بفضل محمد الذيب العجمي.. كل هذا مؤشر حيوية الشعب العربي، الذي راهن قسم من الغرب على تهميشه وإبقائه خارج مسارات التاريخ لمواصلة امتصاص ثرواته الطبيعية واستغلال طاقاته البشرية التي لم يصرف عليها أي مليم في تكوينها.

وإن اختلفت المعطيات الخاصة من بلد عربي لآخر، فإنها في مجملها أظهرت توجّها واحدا نحو كسر الأغلال والتسلط وبرز وعي كبير للدخول للتاريخ من بابه الكبير، وهذا يذكّرنا بما عاشته شعوبنا حين عزمت على كسر قيود الاستعمار وما عرفته من ملاحم وشهداء، دلّوا على استعدادها لدفع الثمن اللازم للحرية والانعتاق، وهي اليوم في مرحلة وعي جديدة، تظهر فيها نفس العزم والأنفة والتحفّز.

ولئن علّمنا التاريخ البعيد والقريب أن مساراته ليست دائما نحو التقدم والارتقاء، إذ قد تعرف الشعوب والأفراد الانكسارات والتوقف ولكنها، في الحركية العامة يكون تاريخ البشر والحضارات وهي تأخذ من بعضها البعض وتتلاقح لا يكون إلا تصاعديا في توجّهه العام.

وقد عشنا التدخلات الأجنبية هنا وهناك خصوصا في ليبيا واليوم في سوريا ورغم تناقض المصالح الغربية مع مصالح الشعب العربي مع ما تدّعيه الشعوب الغربية من مساندة وإعانة للعرب، فإن حسّ الشعب العربي ووعيه العميق بمصالحه وبصيرورة تاريخه، سيجعله يبعثر أوراق المصالح الغربية، طال الزمان أو قصر، لإيماننا بأن للشعب العربي من الأرصدة الماضية والحاضرة والمستقبلية، ما يجعله يدخل التاريخ وهو يدخله اليوم فعلا ويساهم في التاريخ البشري لما له من ثقافة وثروات وزاد بشري ومعرفي سيزداد مع الأيام، ولموقع أرضه في قلب العالم القديم وفي قلب منبع الأديان والكتابة.

يبقى ما يجري الآن في مالي وتأثيراته المباشرة وغير المباشرة على المغرب العربي الكبير وعلى تونس بالذات، ونحن نعتقد أن الحرب التي انطلقت في مالي رسميا منذ أسبوع، وفعليا منذ سنة واحدة، ستطول لسببين اثنين:
أ طبيعة عقيدة الاسلاميين المتشدّدين، وعدم قبولهم بالاختلاف والرأي الآخر وتأويلاتهم الدينية والعقائدية الحرفية لنصّ القرآن الكريم وعدم اطلاعهم على العلوم الانسانية الحديثة التي عمّقت المفاهيم في النفس البشرية وتفرّعات المعرفة المختلفة.

ورغم البعد النسبي لأرض المعارك عن تونس فإنه لا يفصلنا عنها إلا الجزائر الشقيقة، ووجود السلاح بكثرة في ليبيا، ما بعد القذافي ومروره بتونس ووجود بضع مئات من التونسيين المقاتلين مع قاعدة المغرب الكبير في مالي ووجود تيارات في تونس، سلفية جهادية وغيرها، تجنّد الشباب وتقوم بعمل توعوي جهادي نشط جدا تزيد في نجاحه ما تعرفه تونس من إخلالات وبطالة ونقص معرفي وديني لدى شبابنا، كل هذا يجعل تونس، ربما ليست في عين الاعصار تماما ولكنها قريبة منها كثيرا.

وما عاشته بلادنا قبل الثورة وبعدها (أحداث سليمان وأحداث الروحية والقصرين وجندوبة ودوار هيشر وسجنان وسفارة أمريكا) إلا الدليل القاطع على أن تونس تقف في مفترق طرق خطيرة وعلى رمال متحرّكة.

ومن أجل حفظ مستقبل بلادنا، لا بدّ من حلول عميقة جدا آنية وعلى مراحل متوسطة وبعيدة يساهم فيها المجتمع المدني والأحزاب والدولة:

1 مخطط خماسي وعشري للقضاء علي الفقر والبطالة.
2 إعادة النظر جذريا في برامج التعليم منذ الروضة الى الدكتوراه وذلك بغرس المواطن التونسي في هويته وتاريخه وحضارته وفي الآن نفسه تكثيف تعليم اللغات والعلوم الصحيحة، مع الفلسفة والفكر النقدي ليكون الشاب التونسي مسلحا حضارة وعلما وفكرا نقديا نافذا.
3 الفصل الواضح في برامج الأحزاب بين ما هو دعوي وعمل سياسي.

4 تقوية الدولة التونسية في كافة الميادين ووقوفها بحزم ضد كل مستعملي العنف السياسي وعنف الجريمة المنظمة.

تصوّركم لمستقبل الاوضاع وطنيا واقليميا. ما هي حظوظ نجاح الانتقال الديمقراطي التي يعيش على وقعها الوطن العربي اليوم؟

نحن نعتقد جازمين أن حاضر ومستقبل الافراد وكذلك الأوطان إنما يصنعها الفرد والمواطنون «إن صحّ العزم منهم، مصداق قولة الشابي «إذا الشعب يوما أراد الحياة» فلابد أن يستجيب القدر».

ومعنى ذلك لا التقليل من دور القدر ودور ا& عز وجل، وإنّما إيمانا منّا بأن الانسان المسؤول والذي سيحاسب في الآخرة عمّا فعل، هو مخلوق حرّ ويتحمّل كامل مسؤوليته أمام نفسه وأمام الناس وأمام ا&.
وبهذا الفهم، وبصفتي أكتب الأدب والبحث فإني دائم التفاؤل بالانسان، رغم تركيبته المعقّدة ووجود النفس الامارة بالسوء، ووجود عناصر الضعف فيه، ولكني أعرف أيضا أن الانسان يحتوي على عناصر إيجابية ونورانية وملائكية، وهو بالتالي كخليفة & على الأرض لابدّ له من التحرّك والعمل ليعمّر الأرض ويستخلص منها الخبرات له ولأبنائه ولبني جنسه.

وأنا لم أعرف اليأس يوما في آخر أيام بورقيبة الحالكة، أيّام الرئاسة مدى الحياة وأيام مرض الرئيس ونعيق الغربان وتغوّل الفاشلين، ولا طيلة أعوام بن علي المظلمة، بل كنت أنشط سياسيا ونقابيا وثقافيا وجمعياتيا حقوقيا، بلا هوادة مردّدا أن بن علي بنى نظامه على أسس غير متينة، بل هي بلا أسس بتاتا، وكنت أبشر بسقوط نظامه، حتى داخل مراكز الشرطة التي كنت أدعى إليها بانتظام وفي أعماقي اليقين بأن الشعب التونسي الصبور، وصاحب التاريخ الطويل يملك من صفات ا& صفة مهمّة جليلة وهي الصبر والامهال «ا& يُمهل ولا يهمل».

وكذلك الشعب، فهو يسجّل ويداري ويحاول النسيان والتجاوز عن هفوات الساسة والقادة، ولكنه إذا ما عيل صبره وتحقّق من طبيعة ما كان يعايش من أفعال وفساد فإنه يهبّ كالعاصفة الهوجاء التي لا تبقي ولا تذر.

وإن طبيعة الشعب التونسي لهي صورة مجملة من طبيعة البلاد وتضاريسها، فبلادنا بلاد سهول وسباسب وصحاري وقليل من الجبال غير الشاهقة، وأمطار تونس قليلة، معتدلة أو أقلّ من المعدّل، ولكن عواصفها وفيضاناتها وثلوجها القليلة، قد تغيب سنوات ولكنّها إذا هبّت فهي تأتي على الأخضر واليابس وتغرق البلاد اغراقا.

كذلك المواطن التونسي، ذكيّ وصبور ومتسامح ولكنه عكس ذلك تماما مع من يظنّ فيه السذاجة وانعدام العقل «والتبهليل» فإنه ينتفض ويثور وينتقم ويفضح ويعرّي ويحاسب. لذلك أعتقد جازما أن النجاح في الانتقال الديمقراطي في تونس ممكن جدّا إذا تظافرت الجهود وعمّ الحوار والتشاور ولعلّه يكون أقل حظا في بعض الدول العربية الأخرى لاختلاف الأوضاع ولقوّة القوى المضادة للثورة، داخليا وخارجيا، نظرا مثلا للموقع الاستراتيجي لسوريا ونظرا لثروة النفط والغاز في ليبيا.
أما بالنسبة لتونس، ومع وجود الضغوط الداخلية والخارجية فإن ذكاء التونسي الذي أراهن عليه كثيرا، سيكون مفتاح النجاح في الانتقال الديمقراطي ولو أن ذلك سيكون نسبيا لا محالة، والعبرة بمواصلة النضال لتعميق ذلك النجاح النسبي وتطويره وترسيخه في الأدمغة والأرض والتقاليد، ويشترط تحقيق ذلك التنقيص من تعنّت السياسيين وقبولهم بالرأي الآخر كضرورة ديمقراطية حيوية ومصيرية.

ما هو تفسيركم للحديث عن امكانية عودة الأنظمة الدكتاتورية وفشل المرحلة الانتقالية الراهنة؟

هذه إمكانية حقيقية، أخذناها من دروس التاريخ، قديمة وحديثة، فكم من ثورة أجهضت، لتلاقي عديد المعطيات ضدّها، فالثورة الفرنسية مثلا جاءت بالدكتاتور بونابرت، والثورة البلشفية جاءت بدكتاتورية الحزب الشيوعي وستالين، والثورة الثقافية في الصين، دعّمت نفوذ ماوتسي تونغ، والخمير الحمر في كمبوديا، دمّروا العباد والبلاد، وثورة زباطا في المكسيك لم تحرّر الفلاحين والعمّال إلا قليلا.

وكأن مسار التاريخ بطيء جدّا ويتطلّب تضحيات جسام وبالخصوص نفسا طويلا من النضالات المتواصلة. ومع هذا فهناك ثورات نجحت ولو بعد حين، فالثورة الفرنسية، بعد الامبراطورية وعودة الملكية فرضت النظام الجمهوري بعد قرن من الثورة الأولى، واسبانيا والبرتغال وألمانيا وإيطاليا والبرازيل وفينيزولا وبولونيا وأوكرانيا ورومانيا وغيرها مثل بلدان يوغسلافيا السابقة، عرفت نجاحات مهمة ولو بعد دفع ثمن باهض من الأرواح (مثال الشيلي... الخ).

والمهم هو أن لا يستسلم شعب ما، خصوصا بعد نجاح ثورته وعليه أن يواصل الثبات والنضال واليقظة من أجل إيصال الثورة الى مآلها حتى تحقق على أرض الواقع ما رفعته من شعارات، فبهذه النظرة والوقفة المتواصلة تنجح الثورة أيّة ثورة في الوصول لبرّ الأمان، وتنتصر على أعدائها ودعاة الثورة المضادة وهم عادة من كانت لهم مصالح في العهد البائد، يعيدون تنظيم أنفسهم ويحاولون عرقلة المسار الثوري، باختلاق المشاكل واستعمال ما لهم من نفوذ اقتصادي أو اعلامي مثلا، لبثّ الاشاعات وإدخال البلبلة في النفوس وتوقيف الانتاج والاستثمار والتشكيك في كل خطوة جديدة في طريق تحقيق أهداف الثورة.

وعلى أنصار الثورة ومن لهم مصلحة في نجاحها أن يفضحوا هذه الممارسات المضادة وأن يتصدّوا لهم وذلك بمحاسبة الفاسدين من أعداء الثورة، ممن امتص الثروات واستغل عرق العمّال سواء كانوا رجال أعمال أو صحفيين أو قضاة مرتشين أو جامعيين مناشدين أو سياسيين متواطئين.

المهم أن يصمد الثائرون، وما ضاع حق وراءه طالب، وبذلك نضمن نجاح الثورة ونساهم في تحقيق أهدافها على أرض الواقع.

ولا ننسى أن الثورة في جوهرها لتقضي على السلبيات في كافة الميادين التي تعيشها تونس ولترتقي ببلادنا درجات في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة، وهي بهذا ضرورة وحتمية وتحقيقها فرض علينا، فرض عين وفي سبيل هذا فليتنافس المتنافسون.

ما هي من وجهة نظركم سبيل نجاح الثورات في ادراك غاياتها الديمقراطية وسعيها نحو الحريّة والكرامة؟

في هذه المرحلة الانتقالية، وقع سوء فهم كبير لدى المسؤولين السياسيين، فكان الأجدر بعد انتخابات 23 أكتوبر 2011 أن لا تتّجه الى حكومة أغلبية بل الى حكومة مصلحة وطنية أو حكومة الثورة لتنكبّ، بعيدا عن أيّة تجاذبات سياسية الى صياغة دستور توافقي وإيجاد حلول استعجالية للمشاكل المستعصية والمنتشرة خصوصا البطالة والفقر.
والآن وقد بان عجز حكومة الترويكا، فالحل ليس في ترقيع الحكومة الحالية بوجوه «حزبية» لا وزن سياسي حقيقي لها، وقد يكون ذلك من باب الوهم والإيهام به، بأن قاعدة الحكومة، أمام المأزق الكبير الذي وجدت نفسها فيه بصدد التوسّع.

وقد اقترحت الجبهة الشعبية، ونحن من مؤسسّيها أخيرا، تكوين حكومة أزمة مصغّرة، تقتصر على الكفاءات الوطنية لايجاد حلول لا تنتظر التأخير لمقاومة غلاء المعيشة والتحكّم في الأسعار وتوفير الضروريات كالحليب والتعهّد بعدم قطع الاساسيات كالماء والكهرباء والغاز والطرق والسكك الحديدية وعدم توقيف الانتاج من مواد كيميائية وفسفاط وعدم اغلاق المعامل وتوفير المناخ الملائم لعودة السياح لتونس، والقضاء على الأكواخ والمساكن البدائية والشروع في انجاز الخدمات الكبرى كالطرقات السيارات ومدّ السكّة الحديدية.

وتعهّد الطرقات والمسالك الفلاحية وبناء القناطر، وتعهّد المدارس والمنشآت العامة، من صيانة ودهن وتبييض، أي بكلمة موجزة، لفتح كل الورشات الممكنة حتى تصير بلادنا خليّة نحل وعمل، فيشعر المواطن بالراحة، بمقاومة المضاربات والتجارة الموازية وتنظيمها، وهذا ممكن إذا صحّ العزم ووجدت الارادة السياسية، ولكننا نشعر بأن المناصب لدى الأحزاب الحاكمة أهم من حل المشاكل، مع ما ظهر لدى كثير من الوزراء من أداء ضعيف إن لم نقل أداء منعدم تماما وعجز واضح، وضوح الشمس في النهار المشمس، وهذا البرنامج الأدنى ممكن التحقيق أو هكذا نزعم لو أنصتوا إلينا وعلى كل، لتنجح ثورة تونس، لابد من تحقيق أمور أساسية تتمثل في:

1) هيآت مستقلّة للقضاء والاعلام والانتخابات.
2) تحييد وزارات السيادة
3) كتابة دستور توافقي
4) بعث أمن جمهوري
5) إنهاء التعذيب نهائيا
6) محاسبة الفاسدين في كافة الميادين
7) مصالحة عميقة بين كل التونسيين
8) تعليم موحّد، عصري، يضاهي ما هو موجود في أرقى البلدان

وكل هذا الافق ممكن التحقيق لو اجتمعت كل العزائم وأعطيت الأولوية للمصلحة العليا للبلاد.

هل يمكن للاسلام السياسي أن يتوصّل الى إرساء النظام الديمقراطي في معادلة مع الحريّة؟

إن هذه هي المعادلة الصعبة، لأن الطرح الاسلامي اليوم الموجود على الساحة التونسية، بكل تفريعاته، يرجع في جذوره إما الى الفكر الاخواني، القائل بالجاهلية الجديدة، أو الى الفكر الوهابي المتشدّد والمكفّر لأغلب المسلمين اليوم على امتداد الخارطة الاسلامية، في آسيا وافريقيا وأوروبا. رغم اعلان كل المسلمين الشهادتين، ونحن نعلم أن دم المسلم وعرضه وماله تُحرم ما دام آمن بوحدانية ا& وبرسالة محمد صلى ا& عليه وسلم.
وقد قرأنا في كتاب الأستاذ راشد الغنوشي حول الحركة الاسلامية في تونس، أن فكرة وفكر إخوانه اليوم في حركة النهضة، قد تطوّر عن تفكير اخوانه في المشرق العربي، وذلك بفضل احتكاك الاسلاميين في تونس بالفكر اليساري، سواء كان ذلك داخل الجامعة، وفي الميدان الطالبي أو في اتحاد الشغل، داخل النضال النقابي العمّالي، وهو ما جعل فكر النهضاويين، ينتقل من المقولة الاخلاقية للمستضعفين الى وجوب سنّ قوانين اجتماعية لفائدة الكادحين بالفكر والساعد من جانب أوّل والى ضرورة الارتقاء بالتفكير من دائرة الأمّة الاسلامية الى الحقوق الانسانية كافة.
ورغم هذا التوجّه الذي نوّه به راشد الغنوشي في تطوير الفكر المنهجي للاخوان فإن الواقع يناقض ذلك تماما سواء في التصريحات المتناقضة لقادة النهضة أو في الممارسات على الأرض.

من ذلك العداء المستفحل ضد الاتحاد العام التونسي للشغل وتمثل ذلك في:

الاعتداء على المقره المركزي للاتحاد، وعلى عدد من المقرّات الجهوية والفرعية ووضع الزبالة أمامها في حركة متخلّفة جاهلة.
الاعتداء على رمزية تاريخ استشهاد فرحت حشاد، وفي هذا تنكّر لنضال أجيال من التونسيين ولدماء المئات من النقابيين (في صفاقس والنفيضة... الخ).
العمل على خلق تيّار «نقابي» داخل الاتحاد ذاته لهرسلة المنظمة العتيدة.

وكل هذا وغيره نعتبره تمشيّا غير صحيح يناقض اداعاءات التطوّر وعدم هضم تفكير النهضاويين لريادة تونس في العمل النقابي عربيا وافريقيا،وبالتالي تخلّف هذا التفكير عن مسار الشعب التونسي بأجيال وحقب.
كذلك الشأن في الجانب الطلاّبي ونحن نذكر هنا ما عرفته الساحة الطلابية في الثمانينات وأوائل التسعينات من تصادم عنيف بين الطلبة الاسلاميين واليساريين. واعتبار ذلك من «قبيل التجاوزات الفردية» حسب تصريحات المسؤولين الاسلاميين أنذاك، في حين أن تلك الافعال العنيفة إنما هي تبرير اللجوء للعنف كمنهج للوصول الى السيطرة على الساحة الجامعية والطالبية. كل هذه الممارسات وما نعيشه اليوم من استعمال للعنف الممنهج من طرف ما يسمّى «برابطات حماية الثورة»، إنما هو مسار خاطئ، لابد من التمايز عنه من طرف الاسلاميين بشكل واضح لا لبس فيه، وذلك بالتنديد بالعنف، بلا أدنى تبرير.

ونحن اعتقدنا ولا نزال أن على الحركات الاسلامية في تونس، وهي تبحث على تعميق الهويّة العربية الاسلامية لشعبنا، أن لا تنزلق في تبريرات العنف وأن تقطع معه مرّة واحدة إذا أرادت لنفسها ولتونس أن ترسي في الديمقراطية التي هي في جوهرها قبول الآخر المختلف كضرورة حضارية وسياسية وأن تفهم هذه الحركات الاسلامية أن جوهر الديمقراطية هو التداول على السلطة، لذلك لابد من توازن للسلط وإلا كان الانخرام، لذلك لا بد للنهضة اليوم :
أن تفصل بين العمل الدعوي الذي كان منطلقها الميداني وبين العمل السياسي وما دام حزب النهضة قد أرجأ البتّ في هذا الأمر المهم جدا إلى سنة 2014 فإن اختيارات النهضة ستبقى تتأرجح ما بين مقتضيات الفترة الراهنة وهي العمل السياسي فقط، وبين بقايا اختيارات سابقة بنيت على افتراضات بان فسادها وهي اعتبار أن تونس بلد جهاد وحرب وجب أسلمتها من جديد.
ومادام هذا الأمر لم يفصل فيه فإن النهضة وبالتالي تونس ستبقيان في دوامة من التناقضات والترددات وإضاعة فرص ثمينة كما شاهدنا ذلك طيلة السنة المنقضية حين راوحنا مكاننا حول مساواة المرأة للرجل أم هي مكملة له، وحين تجاذبت القوى بين التنصيص على الشريعة في الدستور أو عدم التنصيص عليها الخ...

فالهاجس النهضاوي حول الهوية، هاجس مهم نقاسمها ذلك الأمر تماما ولكن ليس على حساب المكتسبات البشرية فالتونسي والعربي والمسلم هو بشر قبل كل شيء وكل ما ارتقت إليه البشرية من حقوق مكتسبة بفضل تضحيات سنوات عديدة بل قرون من طرف شعوب غير إسلامية وما وصلت إليه البشرية من اكتشافات وتقدم علمي وعقلي هي مكتسبات لنا أيضا .
وكما قال الكاتب المسرحي القرطاجي التونسي منذ أزيد من 22 قرنا «إنني انسان، وكل ما يهم البشرية يهمني».

لذلك لا بد من اعتبار رقيّ البشرية من «رقي المسلمين في ميدان الحقوق الفردية والعامة واعتبار تلك الحقوق مرجعا فكريا راقيا نستظل بها ونتبناها وندافع عنها، لأنها تمكننا من التطور والتقدم وتساعدنا على استعادة دورنا ضمن المنظومة الانسانية كافة.
ولهذا نعتقد أن التنصيص على تلك الحقوق الانسانية ضمن دستورنا المرتقب، واجب وطني، جاءت الثورة لتدعمه لأنه يسمح لنا بالانخراط في المنظومة العالمية الحقوقية ولا يمكن بأي حال من الأحوال النكوس للوراء باسم الهوية التي يمكن لنا أن ندعمها بشكل لا يتناقض أبدا مع صفتنا الانسانية وديننا الحنيف جاء بهذا البعد الانساني وهو ما يسهل مهمتنا لذلك فليبحث علماؤنا في الدين في هذا الاتجاه الأسمى، عوض البقاء ضمن منظومة فكرية قروسطية تجاوزها الزمن منذ قرون وبان عجزها على هضم العلوم الانسانية الحديثة التي جاءت لتقوض كثيرا من مسلماتنا وتزحزج ماكنا نعتقده الصواب.
فعلى علماء الدين الاسلامي اليوم أن يتسلحوا بالعلوم الانسانية الحديثة وأن يخرجوا من بوتقة التكرار والحفظ العقيم لأطروحات كانت صالحة في زمانها.
وبالخصوص على الزعماء السياسيين الاسلاميين اليوم دراسة تجارب تركيا وماليزيا وأندونيسيا وغيرها من البلدان الاسلامية وأن يتجاوزوا ما اعتادوا عليه من فكر لأن مستقبل البلدان في قدرة زعمائه على النظرة الاستشرافية المتجاوزة للمتعارف انطلاقا من دراسات استراتيجية تقوم بها مراكز متعددة نفتقدها اليوم تماما .

ماهي مخاطر الاستقطاب العلماني الاسلامي في تونس

إن هذا الاستقطاب خاطئ في منطلقه النظري وكذلك في الواقع التونسي :

1) لأن النهضة قطعت كما جاء على لسان الأستاذ راشد الغنوشي مع مقولة الإخوان وأبي الأعلى المودودي حول الجاهلية الجديدة وأسلمة المجتمع التونسي وإن كان الاستاذ الغنوشي يواصل الحديث عن التدافع الاجتماعي وكأنه فقط يؤجل المسألة في الزمن ويزحزح الطرح النظري إلى فترة لاحقة لا شك أنه يستعجلها في الواقع، وهذا تناقض واضح في الطرح رغم ما يقدم من حجج لفائدة هذا التوجه.
2) ان المجتمع التونسي وقع أسلمته منذ 14 قرنا وعرب منذ ألف سنة
3) إن تركيبة الفكر التونسي ثرية جدا ومعقدة ولا تستجيب مطلقا لهذا الطرح التبسيطي الاسلامي التقليدي والذي يقسم الناس إلى طائفتين فقط، طبقة مسلمة وأخرى كافرة وجبت محاربتها واستئصالها أي هذا الطرح المانوي الذي لا يرى من الألوان إلا الأسود والأبيض وهذا الطرح يتناقض جوهريا مع جوهر الاسلام الموحدي أصلا...ومع تناقضات الوضع الاقليمي والعالمي والذي يجعل من هذا الطرح الاسلامي طرحا متخلفا عن العصر وخارجا عن التاريخ وفي المقابل نجد نفس الانبتات لدى فئة قليلة من المجتمع التونسي لا تؤمن إلا بالغرب وبالفرنكفونية بالذات لهذا فإن مصلحة تونس وواقعها يدعوان إلى تجاوز هذا الاستقطاب المغلوط.

ما مدى جدية الخوف من تفشي ظاهرة الغلو يمينا ويسارا وكذلك مظاهر العنف السياسي والتعصب الديني؟
هذا الخوف من الغلو واقع معاش وحقيقي خصوصا بعد أن وصل إلى القتل (مثل حادثة مدنين المشؤومة) واستعمال السلاح من طرف تنظيم القاعدة ببلادنا في مرات عديدة ومنع اجتماعات الأحزاب بالقوة فهذا منعرج خطير ومؤاشرات تمثل انذارات كبيرة تنبهنا إلى أن هذا المسلك لا يمت إلى الديمقراطية والانتقال الديمقراطي بصلة وعليه أن نسدّ أبوابه وأن نندد به مطلقا وأن نبحث عن منافذ أخرى وطرق مخالفة تماما لهذا العنف السياسي المرفوض من أصله.
وكذلك التعصب الديني الذي تزامن دائما مع عهود الإنحطاط الفكري والحضاري وبالعكس كان التسامح مرادفا للإزدهار المادي والفكري وللإبداع ولإشعاع الأديان والعلوم في كافة الميادين.
لكل هذا فإننا ندعو إلى تجند حقيقي لكل قوى الخير وللمجتمع المدني من أجل الوقوف سدّا منيعا أمام الغلوّ والتطرف في كل مظاهره.

بماذا تفسرون انتشار الظواهر السلفية بعد الثورة؟

إن هذه الظاهرة كانت موجودة في بلادنا قبل الثورة ولكنها لم تكن بارزة للعيان وظهورها كانت نتيجة ماصرنا نتمتع به من حرية منذ سنتين ووجودها في بلادنا بهذه الكيفية نتيجة لفشل نسبي لعملية التحديث في تونس والتي تمت أحيانا بشكل فوقي وتعسفي ونحن نعرف أن التحديث عملية صعبة تتطلب أجيالا ونفسا طويلا ومتواصلا ماهي المخاطر التي تهدد وحدة الشعب التونسي وانسجام مكوناته؟
ان أهم خطر حسب رأينا يتمثل في ما شرع بعضهم في التوجه نحوه ، وهو ازدواجية التعليم في تونس بدعوى «إعادة إحياء التعليم الزيتوني» وهو تعليم تجاوزه العصر وبذل آباؤنا جهودا طيلة قرن كامل لإصلاحه (منذ 1910 إلى 1968) وإن كان المراد تعريب التعليم مع الابقاء على المواد العلمية ضمنه فأهلا ومرحبا مع تعليم كافة اللغات الحية العالمية وهناك مخاطر أخرى عديدة ولكن مسألة التعليم لها الأولوية القصوى.

كيف يتراءى لكم مستقبل اليسار التونسي والعربي في خضم الحراك الحالي؟

أنا مسؤول في الحزب الشعبي للحرية والتقدم وهو إحدى مكونات الجبهة الشعبية أبقى متفائلا بمستقبل اليسار في تونس لأن اليسار إذا ما تجاوز عقده الزعاماتية لدى بعض قيادييه ودغمائية بعض أطروحاته الطوباوية وإذا ما نزل فعليا للساحة السياسية والتحم بهموم المواطنين المعيشية اليومية عندها سيكون اليسار كما كان دائما في التاريخ. قوة اقتراح ونقد وتقدم واستشراف حقيقي للمستقبل تماشيا مع تقاليده ومع مسار التاريخ الحضاري للشعوب.

هل يعيش المجتمع التونسي أزمة هوية؟

لا أظن ذلك مطلقا ولكن قد تختلط السبل على بعضهم لتداخل بعض المظاهر وتشعبها ، إن الشعب التونسي العظيم قد هضم الاسلام منذ أكثر من 13 قرنا وكذلك اللغة العربية ولتونس مساهماتها العميقة في انتشار الإسلام وإشعاعه وفي خدمة العربية وتجلى ذلك بكل وضوح عند مقاومة الاستعمار الفرنسي إلى سنة 1964 حين أممت أراضي المعمرين ولكن إقبال التونسي على الحداثة والتحديث هو من قبيل الشيء الثابت في تاريخ بلادنا الطويل وذلك لقربنا من أوروبا ولوجودنا في قلب البحر المتوسط قلب الحضارات القديمة فالتونسي مرن ومتسامح ومتفتح بدون المساس بجوهر هويته لذلك لا خوف على شعبنا من الذوبان فهو شعب عربي مسلم وسيبقى كذلك إلى ما شاء الله.

ما هو ردكم على من يصرح أننا نعيش أزمة دولة ونظام حكم؟

هذا أمر طبيعي في مرحلة ما بعد الثورة ونحن نسعى للقطع مع منظومة الدكترة وتردد النخب السياسية اليوم في اختيار نوعية نظام الحكم (رئاسي أم نيابي أم ما بين بين) هو تردد مفهوم ، وإن كنا نميل إلى عدم نقل مشكل تمركز السلطة من قرطاج إلى القصبة بل إلى تقاسم السلطة التنفيذية ما بين الرئاسة والحكومة وضبط ذلك بشكل دقيق وجعل المجلس النيابي التشريعي عنصر توازن وتشكيل المحكمة الدستورية العليا للبت في الإشكاليات حين تطرح.

هل من مصلحة الغرب إنشاء أنظمة ديمقراطية في الوطن العربي؟

في الظاهر لا ، ولكن الغرب ليس فقط المصالح والحسابات السياسية لأن الأنظمة الديمقراطية وإن كانت في المنطق ستدافع عن أوطانها وشعوبها ضد المطامع الغربية، فإنها في الحوصلة سيكون التعامل مع الديمقراطيين أسهل وأسلم على المدى المتوسط والبعيد
إشكالية حرية التعبير والمقدس!
هذه إشكالية مغلوطة، لأنها تطرح في فترة انتقالية فيها كثير من اللغط والتجاذبات السياسية وفي واقع الأمر فإن حرية التعبير بدون قيود هي الضامن الوحيد :

1) لتوسيع رقعة الحرية في المطلق
2) السماح بالجدل والحوار وتقييم الأمور بموضوعية
3) استشراف المستقبل بدون عقد ومعوقات.

ونحن كمثقفين كتبنا في هذا الموضوع كثيرا وحاضرت حوله وشاركنا في عديد الموائد المستديرة ودافعنا ولا نزال عن هذه الحرية المقدسة لأنها السماد الحقيقي للرقي والتقدم والإزدهار وبدونها سنبقى نبرر التخلف، مع ضرورة احترام المقدسات وعدم المسّ بها.

من هو جلول عزونة ؟

I الكاتب
مولود في 20 جانفي 1944 بمنزل تميم.
لي 16 كتابا من بين قصص قصيرة وروايات ودراسات نقدية أدبية وحضارية أغلبها بالعربية.
عشرات الدراسات باللغة الفرنسية في الأدب الفرنسي والأدب المقارن.
عضو اتحاد الكتاب التونسيين منذ 1973 وعضو الهيئة المديرة (1985 1996).
مؤسس ورئيس الرابطة التونسية للكتاب الأحرار (2001).
عضو المجمع التونسي للأداب والعلوم والفنون بيت الحكمة (2012).
II السياسي
مؤسس لحزب الوحدة الشعبية (1981) ورئيس تحرير جريدته «الوحدة» (1981 1989).
مؤسس الحزب الشعبي للحرية والتقدم (2011).
أحد مؤسسي الجبهة الشعبية (2011).
أحد مؤسّسي هيأة 18 أكتوبر (2005).
III النقابي
عضو نقابة التعليم العالي منذ (1973) وعضو هيأتها المديرة (1975 1981).
مؤسّس فرع هذه النقابة بالمدرسة الوطنية للمهندسين (1974).
IV الجامعي
أستاذ محاضر في التعليم العالي.
درّس بالمدرسة الوطنية للمهندسين بتونس (1972 1984).
أستاذ بكلية الأداب بمنوبة (1984 الى حين التقاعد).
عضو المجلس العلمي بمدرسة المهندسين (1975 1978).
عضو المجلس العلمي بكلية الاداب والانسانيات بمنوبة (1999 2002).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.