التجاذبات الحادة حول التحوير الوزاري ساهمت في الكشف عن عديد الأمور التي ظلت مهمشة أو مخفية داخل الترويكا وخارجها، أسئلة كثيرة وحارقة باتت تتداول بكثافة حول سبب تمسّك حزبي المؤتمر والتكتّل بإجراء تغيير على مستوى وزارة الخارجيّة في مقابل عرض النهضة للحقيبة على أحمد نجيب الشابي؟. الجدل حول حقيبة الخارجيّة كان عنيفا وحادا وطرح العديد من الأسئلة خاصة المتعلّقة بالصعود المفاجئ لبعض الشخصيات السياسية ، وتتالي التسريبات والفضائح التي تكاد تكون في اتجاه واحد وهو استهداف رموز النهضة وتحديدا الحلقة المقربة من رئيسها راشد الغنوشي.
من الأسئلة المطروحة أيضاً علاقة كلّ ذلك الجدل والتجاذب بالحملة الممنهجة في الشهرين الأخيرين للإيحاء بوجود خلاف بين الغنوشي وحمادي الجبالي وتحميل الأول مسؤولية فشل الحكومة في تحقيق أهداف الثورة؟ .
أكثر من تثار حوله الأسئلة في نظر الملاحظين هو كاتب الدولة للخارجية الهادي بن عباس-المقرّب من محمّد عبّو الأمين العام الحالي للمؤتمر- والذي يصر الحزب على تعيينه وزيرا معتمدا لدى وزير الخارجية، بن عباس لم يسجل له اي نشاط سياسي يذكر قبل الثورة، رغم السيرة الذاتية « السطحية» التي قدمها وتقتصر في الحياة السياسية على «عضو مؤسس للمؤتمر من أجل الجمهورية 2001 ، كتب مقالات في مجلة من 2000 إلى 2003 ومنسق برنامج السياسة الخارجية لحزب المؤتمر «سيكون من الصعب العثور على شخص سمع بنشاط الهادي بن عباس السياسي المعارض للنظام السابق، قبل سقوطه، قبل أن يبرز فجأة بعد الثورة ، ليعين كاتب دولة للخارجية ثم ناطقا رسميا باسم حزب المؤتمر، وأخيرا كمرشح لمنصب (وزير معتمد للخارجيّة) قد يهدد تمسكه به بتفجير الترويكا وفك ارتباطها خاصة بعد ظهور دلائل قوية على ضلوع أو استفادة بن عباس من «مخطط» الإطاحة برفيق بن عبد السلام.
تمسك وتشدد وتحجيم ادوار
المسألة ليست مرتبطة بتمسك النهضة بوزارة سيادة ولا باحتفاظ صهر رئيس الحركة راشد الغنوشي بمنصب وزير الخارجية ، كما ترى بعض الأطراف . والدليل على ذلك هو ان النهضة عرضت الوزارة على الحزب الجمهوري وقياديه البارز احمد نجيب الشابي، لتوسيع التحالف وإعطاء نفس جديد للعمل الحكومي.
المسالة تبدو أعمق وهي مرتبطة بالدور الذي قد يكون لعبه «الوافد الجديد» للساحة السياسية الهادي بن عباس بالذات في إطار عملية «الاستهداف» المتواصل لرفيق بن عبد السلام، وتقليم أظافر النهضة وتحجيم دورها الخارجي، لتحقيق هدف استراتيجي هو الحيلولة دون اندماج الإسلاميين في المجتمع الدولي، وتوثيق علاقتهم بالقوى المستعدة للتعاون معهم وعلى رأسها الولاياتالمتحدةالأمريكية، وهو ما يفسر حرصه على الحصول على كتابة الدولة للشؤون الأمريكية رغم ارتباطه الوثيق بفرنسا والأوساط الفرنسية !! وأيضاً تركيزه على الملف الأمريكي رغم انه كاتب دولة للشؤون الآسيوية أيضا!!.
التشدد الغريب من المؤتمر لمنحه «ترقية»، أمر غير مبرر ، حتى لمن يعتقد بأنّ الرئيس المنصف المرزوقي يريد الاحتفاظ باليد الطولى في السياسة الخارجية عبر الناطق الرسمي باسم حزبه ، فالهادي بن عباس لم يكن مناضلا ضد الاستبداد قبل الثورة ولم يقدم من شواهد الكفاءة في عمله الديبلوماسي ما يبرر استعداد حزب المؤتمر للتضحية بموقعه في الحكومة ورئاسة الجمهورية من أجله ، والمرزوقي ليس محتاجا لتعزيز موقع بن عباس في الوزارة ، لان الحكومة احترمت الصلاحيات المخولة له في السياسة الخارجية ، ولم يبد من وزير الخارجية ما يشير إلى عكس ذلك، حتى في الملفات التي تعارضت فيها مواقف الرئيس مع مصالح تونس كما حدث في ملف الالكسو. بل على العكس من ذلك فان التخلي عن كتاب الدولة في الوزارة سيعطي نجاعة أكبر للديبلوماسية التونسية، التي تعطلت كثير من ملفاتها وخاصة في التعيينات الديبلوماسية بعد دخول الهادي بن عباس بالدرجة الأولى على الخط بين هضبة الهيلتون وقصر قرطاج. الشيء الوحيد الذي قد يبرر ذلك هو أنّ الخطة الجديدة قد تساعد الهادي بن عباس على ان ينجز برتبة الوزير المعتمد ما عجز عن انجازه في خطة كاتب الدولة، وقد تهيئ له ولغيره المزيد من الظروف لإرباك رفيق بن عبد السلام ومن ورائه النهضة ولو كان ذلك على حساب المصلحة الوطنية وصورة تونس في الخارج. وهو أمر قد يكون مفهوما في إطار التنافس والتدافع بين الأحزاب والرغبة في تحسين « الموقع التفاوضي» على مشارف استحقاق انتخابي مصيري، ولكنها مغامرة محفوفة بعديد المخاطر لحزب المؤتمر المهدد بالتلاشي في حال خرج المرزوقي من قصر قرطاج في إطار « زلزال» قد يهز أركان الترويكا ان استحال الوفاق بين مكوناتها.
رفيق بن عبد السلام ، يمكن اعتباره الوزير الأكثر استهدافا في حكومة الجبالي ، كان بالطبع ضحية زلات لسانه في أكثر من مناسبة ولكن تتالي الهجمات ضده أمر لا يمكن أن يكون عفويا خاصة بعد اعتراف المدونة المقربة من حزب المؤتمر ألفة الرياحي بأنها تعمّدت الحديث عن فضيحة أخلاقيّة للفت الانتباه لما عرف لاحقا بقضية «الشيراتون غيت»، هذه القضية التي كان الهادي بن عباس أول من دعا إلى التحقيق فيها متجاوزا واجب التضامن مع زميله ورئيسه.
وزير الخارجية كان عرضة لهجومات كاسحة عديدة محورها مصاهرته لرئيس حركة النهضة ولقبه العائلي وحقيقة شهائده العلمية ... معنى ذلك انه لم ينعم بالراحة أبدا وكان يواجه باستمرار ومنذ توليه مقاليد الوزارة، عملية إرباك منظمة وتشويشا متعمدا يستهدف الشخص والحركة التي يمثلها ورئيسها الذي تدرك جهات عديدة ان زعامته الروحية والتاريخية تجعله الوحيد القادر على الحفاظ على وحدة الحركة وتماسكها وإدارة التناقضات والاجتهادات داخلها وفي علاقتها بمحيطها الإسلامي والوطني. أما المستفيد من ذلك فهو دائما مساعده للشؤون الأمريكية والآسيوية ، الذي لم يخف طموحه للهيمنة على «هضبة الهيلتون» وتحديه الدائم لوزيره ، واستغلال موقعه كناطق رسمي «لحزب الرئيس» لتفخيخ العلاقة بين رئيس الجمهورية المسؤول الأول عن الملف الديبلوماسي ووزير الخارجية المشرف الأول أمام الرئاسات الثلاث على تنفيذ سياستنا الخارجية.
استهداف واختراقات
هذه التداخلات تطرح العديد من الأسئلة المحوريّة والهامّة ، منها:
هل كان استهداف رفيق بن عبد السلام، سواء كان بن عباس وراءه أو مستفيدا منه، يهدف إلى التشويش على الاختراقات الديبلوماسية العديدة التي حققها وخاصة بعد نجاحه في تحويل جزء من ديون تونس إلى مساعدات؟. هل كان عقابا له على موقفه الوطني المدافع عن استقلالية القرار السيادي التونسي خلال مؤتمر أصدقاء سوريا والذي أفسد حسابات أطراف عديدة داخلية وخارجية ؟. هل هو تعبير عن خوف قوى دولية من خروج الديبلوماسية التونسية من دائرة تحالفاتها التقليدية والانفتاح أكثر على القوى التي ساندت الربيع العربي وتحديدا واشنطن؟. هل يعكس رغبة داخلية وخارجية من بعض القوى في عزل حركة النهضة دوليا وتقليم أظافرها وهو ما تجلى في إجبارها على عدم تعيين سفراء « نهضويين» وخاصة في واشنطن التي بقيت دون سفير لأشهر عديدة تولى فيها الهادي بن عباس إدارة ملف العلاقات التونسيةالأمريكية دون منازع، ولاسيما خلال أحداث السفارة ؟. ما علاقة قضية الشيراتون غيت « بالقنبلة الصوتية» التي فجرتها «أطراف» أمنية وإعلامية فرنسية أثناء إيقاف بلقاسم الفرشيشي في باريس واتهامه بحمل أموال من السعودية رغم انه كان قادما من تونس ؟. ما علاقة كلّ ذلك بالتسريبات الإعلامية حول الشركات التي كان يديرها بعض الوزراء النهضويين أثناء إقامتهم في المنفى ، دون التعرض بكلمة لأنشطة المعارضين الآخرين ومواردهم ومداخيلهم ومنهم بن عباس الذي اتضح انه لم يصرح بممتلكاته في الخارج الا في بداية السنة الحالية رغم ان حزبه يرفع شعار الشفافية ومقاومة الفساد ؟.
وأخيرا ، ما علاقة كل ذلك بوجود شخص «طموح» مثل الهادي بن عباس في وزارة الخارجية ؟. الاكيد ان بقاء الهادي بن عباس في وزارة الخارجية سواء في خطة كاتب دولة او وزير معتمد في المرحلة القادمة ، لن يحمل أجوبة مباشرة ولكنه سيكون أكثر من ضروري لمن يراهن على أضعاف النهضة في الانتخابات القادمة وان كان السؤال المطروح هو لمصلحة من تقوية شريكي الحكم وإجبار النهضة على تقديم تنازلات أكبر لفائدتهما تنقذ شعبيتهما المنهارة، ام لتحقيق أجندة تتجاوز حجم وحسابات حزب المؤتمر الذي اعترف أمينه العام محمد عبو بانه بدا ب40 شخصية وانتهى ب7 مناضلين عند اندلاع الثورة لم يوضح عبو ان كان الهادي بن عباس أحدهم ام لا؟.
وهل سيضحي الرئيس المرزوقي بعلاقته التاريخية الوثيقة بحركة النهضة ورئيسها راشد الغنوشي الذي كان الداعم الحقيقي لدخوله قصر قرطاج ، من أجل الهادي بن عباس الذي تحول وخاصة بعد فشل « الشيراتون غيت» في تشويه بن عبد السلام إلى عبء على الحزب ورئيسه الشرفي؟ وهل ستضحي النهضة بوزيرها الأكثر استهدافا وتقبل بتحجيم دورها الديبلوماسي والتضحية بعلاقاتها الدولية، أم سيراجع شريكا الحكم اللذان اتفقا على الإطاحة برفيق بن عبد السلام مواقفهما، بعد حصول التكتل على سفارة باريس، وحرمان النهضة من الحصول على أي سفارة، وبرهنة المرزوقي على أنه الرقم الأصعب في السياسة الخارجية وهو أمر لم يحاول رفيق بن عبد السلام تحديه أو تغييره أو المساس به؟.
نصف الإجابة جاءت في الحديث الأخير للرئيس المرزوقي لجريدة الشرق الأوسط حينما اقر بعمق علاقته مع زعيم حركة النهضة الأستاذ راشد الغنوشي وأنها علاقة فوق التجاذبات الحزبية والحسابات الآنية والشخصية الضيقة، والنصف الثاني سيكون حتما في التحوير الوزاري المرتقب الإعلان عنه اليوم أو غدا.
ولكن السؤال الأهم والأبرز والأخطر هو هل ستتحمل سياستنا الخارجية في محيط مليء بالمخاطر والتقلبات المزيد من المزايدات والمناورات و«الطعن في الظهر» ؟.