أزمة تشكيل حكومة جديدة، قادت الى حركية ديبلوماسية غير عادية في تونس، فصاح البعض من المستندين على نظرية المؤامرة بأن التدخلات الأجنبية قد بدأت، وطرح آخرون من باب الحياء السياسي مسألة السفارات الأجنبية وعلاقات الاطراف السياسية بها، ولا يخلو الطرح الأول والثاني لا من السذاجة ولا ايضا من العنتريات، فهؤلاء ما زالوا يجرّون ثقافة قديمة ومازالوا يراهنون على المزايدات «الوطنية» وكل المواقف التي صدرت عن شركاء تونس او أصدقائها كانت مواقف راعت الوضع برمته، فهي وإن عبّرت عن مساندتها لرئيس الحكومة ولسعيه الى حلحلة الوضع إلا أنها ثمنت أن يكون مسعاه مزكى من المؤسسات وهو ما يتمناه رئيس الحكومة وما تتمناه معه كل القوى الأخرى حتى وإن تناقضت في رؤاها فأين الخلل إذن؟ وأين هي المؤامرة؟ وما هو التدخل الذي أتى من الشركاء أو الأصدقاء؟ لا وجود لأي شيء من هذا، ولم يتحرك طرف لا لفرض واقع، ولا لوضع شروط إنما هي العلاقات الضرورية بين الدول والحشد الديبلوماسي لتوجه يريد أن يشرح غايته، وأن يوضّح نواياه تحقيقا لمصلحة تونسية صرفة. وأما عن القرار الوطني وما يتبعه، فهذه مسائل أصبحت منذ عقود نسبية وأتت العولمة لتحوّرها وتعطيها بعدا آخر ومفهوما جديدا، وإلا لكان بلد مثل الصين تابعا الى الولاياتالمتحدةالأمريكية، بما أنها بلاد لا تتصرف في عملتها إن بالتخفيض أو بالزيادة (على سبيل المثال) إلا بعد أن تدرس تأثير ذلك على علاقتها مع الولاياتالمتحدة وهي لا تتردد في مناسبات كثيرة أن تتناقش في الأمر مع خبراء أمريكيين، تتدفق السلع الصينية على أرضهم وتغزوا أسواقهم وتؤثر على توازناتهم فكيف يكون حال تونس هذا البلد الصغير الذي لا يحتوي على أي ثروة تسيل اللعاب، وتجعله محل تجاذبات وصراعات دولية إذن؟ لقد استند أغلب «الخائفين» على تونس على تصريحات أخيرة صادرة عن سياسيين أوروبيين هامين على غرار تصريح وزير الداخلية الفرنسي أو كلام المستشارة الألمانية وحتى إلى شهادة وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة وهي تشخص الأوضاع في تونس وفي المنطقة لكي يربطوا في الأخير بين تلك التصريحات ذات الدلالات الكبرى بلا شك وبين الحركية الديبلوماسية التي شهدتها تونس خلال اليومين الأخيرين فكانت هذه الحركية عندهم مواصلة لتلك التصريحات، وهذا غير صحيح، ليس لأنه لا يوجد من رابط بين هذا وذاك، بل لأن أغلب اللقاءات التي شهدتها تونس مؤخرا أتت بطلب من رئيس الحكومة نفسه وبحضور وزير الخارجية وقد كان يمكن له أن يغيّبه.
وإذا كانت تلك التصريحات الحمّالة لعديد المعاني والتي ستكون لها تأثيرات في المستقبل على علاقات تونس إلا أنه لا يمكن ايجاد خيط يربط بينها وبين ذلك الحشد الديبلوماسي الذي لفت الانتباه في الأيام الأخيرة، والموقف الدولي الآن واضح كل الوضوح : هو لا يملك الا أن يستمع الى رئيس الحكومة ولا يرى خللا في كلام، وهو منتبه الى شرعية المؤسسات وما على الأطراف التونسية الا ان تجد هي وحدها سبيل التوفيق بين الأمرين.
ثم إن هذه الأطراف وهي أولا الاتحاد الأوروبي (وعلى رأسه فرنسا) وثانيا الولاياتالمتحدة هي أطراف تعتبر بلغة الاقتصاد والثقافة والأمن الشركاء الأولين لتونس وحاجة تونس اليهم تفوق مرات حاجتهم لها. وكانت تونس مهما كان نظامها ولازالت وستبقى في حاجة الى دعمهم ومساندتهم ومعونتهم ومشورتهم.
وهذه حقيقة لا يلغيها لا ذلك الحماس الساذج للقرار الوطني، ولا ذلك الغرور المستجد لتونس «الثورة» الذي أحيا ثقافة قديمة، وألهب عنتريات لم تصلح في الأزمات الغابرة وهي لن تصلح في هذا الزمن الذي أزال الحدود ودمج اقتصاد العالم في بعضه البعض فلم تقابله الثقافة القديمة الا بالصياح أمام المؤامرات التي تحاك، والدسائس التي تخاط، والخدائع التي تتعرض لها الشعوب.
إن هذا الشرح الذي ورد لا يعني الا الموقف الدولي من أزمة تشكيل الحكومة حاليا، أما عن الموقف من الأوضاع في تونس ككل ورؤية تلك الأطراف الدولية له، فهو يحتاج الى كلام آخر.