قال صاحبي : أنت تعرف أنني غرقت منذ الرابع عشر من جانفي في شؤون الوطن، وقضايا السياسة حتى شوشة الرأس، ولكن قد بدأ يسيطر علي الملل، ويغزوني القرف، فقد أصبح كل من هب ودب مختصا في السياسة، وتكتشف مع الزمن أنه لا يفرق بين كوعها وبوعها، ينتصب زاهيا مثل الديكة، مغرورا مثرثرا، ومستبلها الناس، ولو أصغى إلى خضار الحي لسمع منه انطلاقا من معاناة المواطن اليومية درسا بليغا في فنون السياسة، وهو لم يسمع في حياته بكتاب السياسة لأسطو، ولا بمقدمة ابن خلدون، ولا بكتاب «الأمير» لمكيافلي. قلت : هوّن عليك، ولا تنس أن متابعة شؤون الوطن، والإنكباب على فهمها في الظروف الراهنة واجب وطني، وهويمثل أضعف الإيمان مقارنة بما يتعرض له المواطنون نساء ورجالا من أذى، وهم يذودون عن البلاد كي لا يجرفها سيل الردة والرداءة. لم تقل لي ما أضجرك في الخطاب السياسي ؟
قال صاحبي : أسوق في هذا الصدد بعض الأمثلة :
تبرير أصحاب السلطان أخطاء فادحة وفاضحة، وأجمع الناس أنها خطايا، وليست مجرد أخطاء.
كيف لا يطير النوم عن جفوني بعد أن طار عقلي، وأنا أنصت لعضوفي الحكومة يستميت في الدفاع عنها قائلا : إنها لم تفشل، بل حققت نتائج باهرات صفق لها القاصي قبل الداني، ورئيسه قد أعلن بكل صدق وجرأة قبل سويعات أنها فشلت، وهو الماسك الوحيد بزمام السلطة التنفيذية، وله النظرة الشاملة لما يجري في البلاد، وهكذا شهد شاهد من أهلها.
كيف لا يفور دمي، وأنا أسمع إلى قادة في حزب حاكم يقولون : إنهم جمدوا الاستقالة من الحكومة، فنبشت في ذاكرتي فلم أعثر على مثال واحد تتجمد الاستقالة بعد الإعلان عنها !
كيف لا يرتفع ضغطي، وأنا أستمع إلى مسؤول في قمة الهرم يقول «فشلنا جميعا سلطة ومعارضة»! إن أبجديات السياسة تقول : إن من يتحمل السلطة هوالذي ينجح، أويفشل، أما رسالة المعارضة فهي النقد، ولفت النظر إلى النقائص، واصطياد المثالب إن دعت الحاجة إلى ذلك، فكيف تكون مسؤولة، وهي لا ناقة لها ولا جمل في صنع القرار ؟
يمكن أن نوجه إليها النقد، وأن نشهر بها إن لزم الأمر لورفضت مد الأيدي إلى مبادرة إخراج البلاد من الأزمة بعد الاتفاق على شروط نجاحها.
قلت : ألمعت أكثر من مرة في هذا الفضاء أن الأحوال التي تعقب الانتفاضات الشعبية شديدة التعقيد، ولها منطقها الخاص، وتطفو فيها مفاهيم متناقضة مع أهدافها، وبخاصة عندما يختلط السياسي بالديني، إذ أن للسياسة قيما وأنساقا تتناقض مع قيم أنساق الديني، ومن هنا يذهب البعض إلى القول : إنه لا أمل في التجارب الديمقراطية في بلدان «الربيع العربي» بعد أن أصبح القرار خاضعا للرؤية الدينية، آملا أن يكذب المستقبل هذا التحليل رغم تماسك منطقه.
أعود إلى إشكالية الاعتراف بالفشل، ملمحا إلى أن الفضاء العربي الإسلامي ليست له تقاليد في هذا المجال، ولا غرابة في ذلك، فهوقد خضع قرونا طويلة لنظم سلطوية استبدادية تستنجد بمقولة «القضاء والقدر» لتبرير فشلها إن اعترفت به.
لا أستبعد أن هنالك من قال : لماذا هذا الزلزال الذي هز البلاد غداة الاغتيال الجبان يوم الاربعاء الأسود، إنه قضاء وقدر، وليطو الملف !!
الاعتراف بالفشل ليس عيبا، بل الشعوب تقدر شجاعة الاعتراف به عندما يكون صادقا، فقد اعترف المرحوم جمال عبد الناصر بالفشل غداة هزيمة 1967، وتخلى عن السلطة، فنزلت الجماهير بالملايين إلى الشارع لتعلن تمسكها به، وأثبت الروايات أنه كان صادقا في قراره، وليس مناورة كما كتب البعض، فمن المعروف أن الشعوب لا تخذل زعماءها عندما ينهزمون أمام العدو، وإذا كانت هنالك محاسبة فإنها تأتي لاحقا، أما الاعتراف بالفشل في المجتمعات الديمقراطية فقد أصبح من سنن اللعبة السياسية، والأمثلة على ذلك كثيرة.
قال صاحبي : كيف الأمر في التراث السياسي العربي الإسلامي ؟
قلت : ليس من المبالغة القول في هذا الصدد : إن المؤسسين الأوائل قد نظروا لحالتي النجاح والفشل قبل أن يصبح الحكم في الإسلام وراثيا، فبعد أن تقبل أبوبكر (ر.ع.) البيعة العامة في المسجد النبوي خطب فقال : «... وما أنا إلا كأحدكم، فإذا رأيتموني قد استقمت فاتبعوني، وإن زغت فقوموني».