هذا الشاب الذي يدعى «أبوزيد التونسي» رمى بنفسه الى التهلكة جراء ما اعتقد شخصيا أنه مجرد «تفشليم» لغوي. وقد تسنى لي أن أشاهده على الشاشة فما رأيت الا شابا ظريفا وتلقائيا ومتهوّرا، لكن تهوّر الأطفال الصغار، فكيف لمقاتل يجاهد فيردي ويسبي أن ينتهي متعرّضا لعملية «براكاج» وهو المدجج بالسلاح، ثم يرمى على الحدود ويطلب منه مغادرة ساحة الوغى، غير مأسوف عليه ولا معترفا له بأي مزيّة؟ ومنطقيا فإن الذين فعلوا به كل ذلك هم من جنّدوه ثم اكتشفوا فيه كل أنواع الخلل، فتخلّصوا منه بسهولة تماما كما استدرجوه بسهولة. وهو عوض ان يصمت، استبدّ به زهو، فأتى متطوّعا الى الشاشة يستعرض بعضا من بطولاته التي يعلم الله وحده مدى صحّتها. ثم تورّط في كلام يتهمه بالارهاب ويدينه بهذه التهمة الخطيرة.
ولو كان هذا الشاب حقّا يمثل خطرا أو تجاوز قانونا أو ينتمي الى جهة شديدة البأس لتمّ غضّ الطرف عنه فيوجد في تونس من هو أخطر منه ألف مرّة، ومن لا يفذلك في هذا المضمار، ولكنه حرّ طليق، لا أحد يستطيع الوصول اليه بل يفكّر مجرد التفكير في الوصول اليه إتقاء للشرور والمشاكل.
ومشكلة «أبوزيد» انه واضح كل الوضوح بأنه مكسور الجناح، وأنه لا يجد من يجيره، وأنه مزهو بالوهم، ومختال بخيالات. لذلك كان سهلا جدّا استدراجه ثانية أمام الكاميرا ليحترق مثل «ناموسة» لا حول لها ولا قوة، وذلك جرّاء «تفشليمة» أولا وجرّاء كل أنواع «التفشليم» التي وجدها في تونس. فالجميع يفشلم والجميع يفتعل بطولة، والجميع ثوّار والجميع يتجاوزون القانون، ويدعون الى العنف وينظرّون له.
حفل «زارة» و«سطمبالي» مفتوح، وهرج ومرج وهراش، فكيف لا ينخرط فيه، ولا يرقص مثل كل الراقصين، ولا تنتابه «نوبات» مثل كل هؤلاء السكارى، وما هم بسكارى. وهو المصاب مثل الكل بنرجسية ساذجة، وبزهو شاب، وبخيلاء صوّرت له أنه قد يكون بالكلام واللغو والثرثرة هزبْرا يخشى صولته، وأسدا إذا توثّب هرب الآخرون.
والحقيقة أن هذا الأمر أيضا ليس مقصودا، فهو يريد أن يتحلّق الآخرون حوله منصتون لبطولاته، لا أن يفرّوا منه ولا أن يخشوا غضبه ولا أن يثير فزعهم، ذلك هو مقصده وتلك هي نيته. فإذا بقاضي التحقيق يصدر بطاقة ايداع ضده. واذا بفرقة مقاومة الإرهاب تفتح في شأنه محضرا.
ويبدو من الأسباب الرئيسية التي فتحت أمام «أبو زيد» أبواب السجن والمحاسبة التي قد لا تليها مصالحة، هو قوله إنه لن يتردد في حمل السلاح على العلمانيين فيما لو هم صعدوا الى الحكم. وهو في هذا لا يختلف في شيء عن الرئيس المؤقت للجمهورية المجلسية التونسية عندما توعد هو بدوره هؤلاء بالمقاصل والمشانق في انفلات لغوي وبتفشليم مدني لا جهادي هذه المرة لا يؤاخذه عليه ذوو العقول بل يجعلهم يدعون له بالشفاء لا أكثر ولا أقل.
لذلك فإنه مطلوب وحتى لا يكال بمكيالين أن يعامل «أبو زيد» مثل زميله. وهو أن يطلق سراحه وأن يتمكن من منصب. عبد الرؤوف المقدمي