تونس «الشروق» عندما دخلت معترك الحياة الثقافية سنة 1990 كان الحبيب الهمامي من اكثر الشعراء الذين ربطتني بهم صداقة ومودّة... وبعد اربعة عشر عاما بقي الحبيب الهمامي كما عهدته طفلا كبيرا اختار الكتابة في العزلة في مدينة الساحلين بعيدا عن زيف الحلقات الثقافية في العاصمة. في هذا الحوار يتحدث الهمامي عن الشعر والعزلة والأصدقاء. * أكثر من عشر سنوات من البعد عن الحياة الثقافية بالعاصمة ماهي الاستنتاجات التي توصلت اليها في هذا البعد؟ بعد سنوات طويلة من وجودي المكثف والمثمر في الساحة الثقافية بالعاصمة كنت خلالها فاعلا ومتفاعلا، اتنافس. وأشاكس وامارس حياتي الشعرية، بكل جنونها وفنونها وشؤونها الابداعية. اضطرتني ظروفي العائلية الى مغادرة العاصمة والاستقرار بمدينة الساحلين. فاكتشفت ان ابتعادي حرمني من الحضور الفعلي في ندوات «المقاهي» وملتقيات الحانات والجلسات على عتبات دور الثقافة وحرمني من المشاكسة المباشرة، ومن الاطلاع على مسودّات (اصدقائي) الشعراء من خلال الاستماع الى جديدهم. وحرمني ابتعادي عن العاصمة من كشف المؤامرات التي يدبّرها هؤلاء ضد اولئك باسم فلسفة «من لا انتماء له فهو ضدّنا» فأفضح المخطط وأنشر تفاصيله في الشارع الثقافي. وحرمت ايضا من عديد الكتب الجديدة التي لا تباع الا في العاصمة. لكن في المقابل افادتني العزلة شعريا، فأن تكتب بعيدا عن الجو الخانق بغبار الهوامش والبيئة الملوثة بالدسائس والعنف اللفظي والمادي يجعلك تبدع. العزلة جعلتني اهتم بالجوهر، فاعتني بقصيدتي، في جوّ مفعم بالصفاء والنقاء. * كنت شاعرا مشاكسا في الشارع الثقافي فأين اختفت تلك المشاكسات؟ لم تكن مشاكساتي باطلة عاطلة عن الوعي فقد كانت تدخلات للدفاع عن هذا المبدع المطعون او ذاك الكاتب البعيد (المغبون) في جهة من الجهات. كنت اقول بشجاعة وبوضوح كلمة الحق بصوت مرتفع فأطعن في النفاق، واتصدى لمحترفي الطعنات من الخلف، واتحدى اصحاب الأقنعة، وحاملي الوجوه المتعددة. كنت احارب كل المتطفلين الذين جاؤوا الى الساحة بالشعارات وليس بالشعر. وكان صوتي شرسا مفترسا للدفاع عن الشعر والشعراء. الآن، اصبحت اعقل، لأنني اكتشفت الخيانة الكبرى، فكثيرون من الذين دافعت عنهم وتحمّلت الطعنات من اجلهم تسلّحوا بالنسيان، ولم يرحموا عزلتي براسلة او بكيف الحال عبر الهاتف. لقد شفيت من المشاكسة، وحين اشتاق اشاكس نفسي. * معظم ابناء جيلك حققوا حضورا في النقد، وفي الاسفار، فلماذا لم تحقق ما حققوه؟ أنا لا أؤمن بالاجيال فهذه تصنيفات باطلة تحشّر ابداعات شتّى في مسار واحد. من اجل تسهيل مهمة من اخترعوا التصنيف فهم يدعون النقد. ونظرا لغزارة الانتاج. وكثافة الشعراء فهم غير قادرين على نقد ومواكبة عديد التجارب لذلك يخترعون المدارس والاجيال للهروب. وهذا يؤكد عجزهم النقدي بعد هذا التوضيح اقول ان كتابي (هكذا فاتني الآتي) حظي بنقد مهمّ، واحتفى به الشعراء كما ان بعض قصائدي التي نشرت في تونس وخارجها شملها نقد اقلام تونسية وأخرى عربية. وقريبا سأصدر مجموعة شعرية بعنوان (يطربني لون عينيك) ارجو ان تثير النقد اما السفر فأنت تعرف انني مقيم (هنا) ولعبة الاسفار تلعب هناك في العاصمة، وتخضع الى العلاقات لا الى النصوص، ثم ان اتحاد الكتّاب لا يوزّع تذاكر السفر الا على من يرضى عنهم. والأكيد انني الابن الضال للاتحاد. * كنت من الأوائل الذين كتبوا القصيدة التجريبية فيها الومضة والنثر والتفعيلة ايضا، كيف ترى قصيدة النثر في تونس؟ لنتفق ان القصيدة الموزونة لا تضمن شعريتها بالوزن وحده، كما ان قصيدة النثر يمكن ان تحقق الشعر رغم انها غير موزونة. فالمهم بالنسبة لي ان اعثر على نص يهزّني وينفضني، يزلزلني ويفيض موسيقى تحرّضني على الكتابة ولا يهمني ان كان موزونا او منثورا. والكارثة الواضحة الآن ان الكثير من النصوص يوزعها اصحابها على الورقة بطريقة الأسطر المتفاوتة ليوهمونا بأنها شعر وحين نقرأ نكتشف كلاما ظلاما. كما ان نصوصا أخرى تقريرية مباشرة خالية من كل جمالية يقدّمها كتّابها على انها قصائد وهذه مهزلة. والغريب ان بعض الاكادميين يشجعون هذا ويكتبون عنه الدراسات (المدح) لأسباب معروفة ولا علاقة لها بالأدب. * نقرأ دراسات وآراء تتحدث عن موت الشعر وان الرواية هي مستقبل الثقافة العربية، فما رأي الحبيب الهمامي؟ هذا غير صحيح، على الاقل بالنسبة لنا كعرب، فلو قمنا بإحصاء الشعراء في تونس الآن لوجدنا انهم يفوقون عدد الروائيين بنسبة عالية. فالشعراء يمثلون نسبة 60 في الساحة الادبية التونسية تقريبا. ونفس النسبة ايضا في باقي البلدان العربية دون ان ننسى موريتانيا بلد المليون شاعر. * اضافة الى الشعر هل فكّرت في اقتحام تجربة اخرى، كالمسرح او الرواية او القصة؟ اضافة الى الشعر، أنا أكتب النثر المزخرف بالشعر منذ سنوات وأنوي جمع هذه النثريات في كتاب. كما انني ا كتب النقد بأسلوب شعري ايضا وهذه التجربة يمكن ان تشكّل حدثا نقديا مثمرا اذا جمّعت في كتاب. * ما رأيك في تجربة منصف المزغني كشاعر ومدير؟ منصف المزغني شاعر كبير له اسلوبه في الكتابة وفي الإنشاد وهو فاعل مثمر في الشعر التونسي والعربي. وكمدير لبيت الشعر، اعرف انه فعل وسيفعل الكثير وان كان لم يستضفني الى (بيت الشعر) سوى مرة واحدة. * كيف ترى تجربة أولاد احمد؟ اعتبر كتابه (الوصية) أهم ما كتب فقد عثرت فيه على ماهزّني، واطربني، فأولاد احمد حين يتخلص من الشعارات يصبح شاعرا كبيرا، ويكتب شعرا زاخرا بالابداع. * تقسيم الشعر التونسي الى اجيال كيف تراه، وما هو موقفك من شعراء التسعينات؟ قلت سابقا انني لا أؤمن بالتقسيم، فقد تعمّدها بعض النقاد ليسهل عليهم الكتابة عن شعرنا بشكل جماعي وهروبا من التورط في معالجة كل تجربة من التجارب. وبالتالي فإن جيل التسعينات تسمية لا معنى لها فاذا كانوا يتحدثون عن اسماء شعرية حسب تاريخ إصدار مجموعاتهم فإنني تماما مثل عادل معيزي مثلا ننتمي لنفس (الجيل) باعتبار اننا اصدرنا مجموعتينا في التسعينات. هكذا فاتني الآتي. ووطّان القصيدة. وبهذا المعنى او بغيره يتضح ان التصنيف لا جدوى منه فكل شاعر له تجربته الخاصة ولابدّ من تناولها نقديا، فحشر عديد التجارب في مسار واحد مظلمة تاريخية.