* حوار فاطمة بن عبد الله الكراي تونس «الشروق» عندما جلست امامه لأضع بين يديه اسئلة «حديث الأحد»، انتابتني حيرة... هل يكون المدخل الأفضل للقاء مع احد «المرجعيات» في علم الاعلام والاتصال، الاستاذ «دانيال بونيو» Daniel Bongnoux، عن حال الاعلام والاتصال في عالمنا اليوم ام الأفضل ان استهلّ اللقاء بسؤال فلسفي عام عن الفكر والانسان والوجود والحياة، وهو رجل الفلسفة والمتخرّج اكاديميا من ذاك الاختصاص؟ ام ترى الولوج يكون افضل الى عالمه المتسع والمترامي تكوينا وتخصصا واهتمامات من بوابة الشعر و»آراغون» الذي علم منه «دانيال بونيو» فعل العرب الحضاري ذات زمن وذات زمان بالاندلس؟ كلها اهتمامات راقية، ومداخل مؤدية للغرض الاساسي وللسؤال الرئيسي المتفرّع بدوره والذي ينصّ على: الاعلام والحرب... الاعلام والاتصال والسياسة... الحضارة بين التوق للأزل والارتباك من الأفول... فلسفة الحكم وفلسفة السلطة وفلسفة الحرية... كلها عناصر في ظاهرها تبدو متفرقة وفي باطنها يشدّ بعضها البعض اكثر من عنصر ربط وترابط.. عندما يتخذ ضيف «حديث الاحد» زاوية الكلام وزاوية الرد على السؤال فلسفة يتناهى اليك بسرعة نظام فكره المرتبط عضويا «بأرسطو»... فيجعلك وبسرعة فائقة ترى الاتصال والثورة التكنولوجية بعيني «فيلسوف» سالف العصر والأوان... وعندما يكون ردّ «دانيال بونيو» من زاوية علم الاتصال والاعلام ترى اسم المنظّر «ريجيس دوبريه» Régis Debray يقفز بين الجملة والأخرى، ليدلل ان الاعلام مثلا هو اول ضحايا الحرب.... أما اذا كانت زاوية الكلام عند «بونيو» حضارية فإن اسم الشاعر المناضل «آراغون» تحتل المكانة الأبرز في حديثه، يستذكر «بونيو» «آراغون» في حسّه السياسي والفكري والشعري لينفذ الى معاني الحضارة العربية من خلال قصيدة «آراغون» بعنوان «مجنون إىلزا»... تحدث دانيال بونيو عن حرب العراق، وحرب الصورة وهيمنة المعلومة احادية المصدر وخلفيته الفكرية ترشح بما جاء في كتاب «ريجيس دوبريه» «حياة وموت الصورة، تاريخ الرؤية بالغرب» لسنة 1992 «بونيو» اعتبر كما «آلان بيلي» استاذ القانون الدولي وجاك فيرجيس المحامي ان الحرب على العراق هي عدوان.. تحدث عن فلسطين وعن الاحتلال وعن الاممالمتحدة، وعن حضارة العرب التي علّمت فأوفت وتهاوت فأفلت في غرناطة... سقوط بسقوط بين «غرناطة» و»بغداد» يشاء القدر ان يكون الرجل منغمسا حد الهوس بقصيدة «آراغون» الحاملة ل 400 صفحة حول افول الحضارة العربية في غرناطة، وهو يتحدث عن مواقف المتحالفين على العراق بين 20 مارس و9 افريل لتكون اسبانيا احدى الدول المشاركة في سقوط بغداد تلك الدولة التي يقول ان قرنها الذهبي بدأ مع سقوط غرناطة... في حين تصطف فرنسا (بلاده) الى اعلان 1789 في ما تبقى المانيا ملتزمة بخطها الفلسفي الذي نظّر له «هايدغر» وغيره من فلاسفة... «جرمانيا»... هكذا كان اللقاء مع صاحب العقود الستة وبعضا من الأشهر، متخرّج من مدرسة المعلمين العليا اختصاص فلسفة واستاذ علوم الاتصال بجامعة «ستاندال» Université stendhal في قرونوبل بفرنسا، له على سبيل الذكر لا الحصر: Blanche ou lصoubli lصAragon و La Communication contre lصinformation وعديد الاسهامات في مجال علوم الاتصال والاعلام صدر له اكثر من 400 مقال ضمن اعمال مشتركة عديدة وهو الى جانب التدريس يؤمّن رئاسة تحرير Cahiers de médiologie. هذا جزء من سيرة «دانيال بونيو» الذاتية، هذه السيرة التي ما ان يطلع عليها عارف بمجال الاعلام او متتبع للشأن الاعلامي الا ان يبادره السؤال التالي يتوجه به الى رجل الاختصاص والاكاديمي المعروف هذا السؤال البداية ينصّ على الآتي: عندما اضع امام الاستاذ «دانيال بونيو» المتخصص في علم الاعلام والتواصل، ورجل الفلسفة وصاحب عديد الكتب والمؤلفات، مفاهيم مثل : الحقيقة... المعلومة... العولمة... الفرد... الجماعة... التواصل... ماهي الفكرة الأساسية التي تتبادر الى ذهنك، ثم ما عسى ان تكون العلاقة بين هذه المفاهيم اليوم، وفي عالم اليوم بمواصفاته التي يبدو عليها اليوم؟ يبتسم ثم يقول: اين ذهبت... واين تحومين بكل هذه المفاهيم.. على كل: هذه المفاهيم التي طرحت تمثّل عناوين التحديات اليوم للفكر النقدي. فهناك تكنولوجيات متعددة ومتطوّرة.. الثورة العلمية التكنولوجية ان في مستوى الصورة او الصوت والانترنات كلها قواعد اساسية قد اسهمت في احداث تغيّرات في حياة الناس حد الاضطراب . الآن ويفضل التكنولوجيا في مجال الاتصالات والمعلومات اصبح كل شيء قريبا ويمكن ان تمسّ هذه «الايديولوجيا» الجديدة ان صح التعبير والتي تتراوح بين الموقع الالكتروني المعلوماتي وحتى العملية الاشهارية بكل تداعياتها، يمكن ان تمس كل مجالات الحياة الثقافية وتمس الهوية كذلك. فالاستعمال العالمي الواسع لهذه التكنولوجيات الجديدة، نجده يمسح كل المجالات. هنا وعندما نرصد هذه الاختراعات وهذا التقدم التكنولوجي الهائل يمكننا ان نقدّم بأن نظرة تفاؤلية يؤمن بها ويسوّقها اصحاب هذا المنتوج وهو الحلم بقرية عالمية واحدة بلا حدود وكذلك نجدهم يتحدثون عن دمقرطة العلوم وعن حوار الثقافات بواسطة هذه المنتجات الهائلة والجديدة، لكني اقول ان هذا الخطاب هو ضرب من ضروب الطوباوية والمثالية، فهذا الامر يقرّب ويسرّع في البيع ولكنه امر يستجيب الى مفاهيم مأخوذة من الشمال لتوجه نحو الجنوب او من الغرب نحو بلدان الجنوب، فبمجرد ان نعتمد نظرة نقدية تجاه هذه العملية او هذا الخطاب، نجد انفسنا بالضرورة ننظر الى الظاهرة بشقيها تداعياتها وآثارها السلبية وتداعياتها ايضا وآثارها الايجابية. * كيف؟ ففي حين نجد انه لا مناص من الانفتاح وهذا امر متأكد وأكيد تجدنا غير قادرين على ان نعيش بدون معلومات وبدون اعلام وأخبار، وبالتالي وبفضل هذا التقدّم التكنولوجي الهائل الذي وصل الى مستوى الثورة، نحن الآن وفي هذا العصر لنا معلومات واخبار افضل من الذين سبقونا وهذا جيّد. لكن الخطر في الامر ان يصبح الاعلام والمعلومة مجالا تبثّ من خلاله انظمة ونواميس وثقافة الشمال او الغرب ليُفرض على بقية العالم. الخطر ان تصبح البرامج جلاّبة ومروّجة لنمط عيش غربي وتحديد نمط عيش وتفكير امريكي، وهذا يمكن ان نسميه اعتداء او خرقا لنمط تفكير الآخرين.. هذا هو الاستعمار الجديد، باسم التقدّم العلمي يفرض على الآخرين نمطه الفكري الاحادي. هذه الازدواجية او هذا التذبذب نجده في قلب التكنولوجيا المتقدمة اذ لا يمكن ان نستوعب او نقبل على خطاب واحد وأحادي في عصر تنشر فيه شعارات التعددية والتنوع. هذا التذبذب يصل حدّ الغموض بالنسبة للبعض ناهيك ان هذه الاحادية او النمطية نجدها تعمل على «تنميط» الحياة والفكر في العالم. كذلك نرصد خطرا آخر، يدخل ضمن هذه التداعيات وهو خطر تمركز وسائل الاتصال والاعلام على اصحاب او مالكي وسائل الاعلام الأقل قوة وغنى فهؤلاء الصغار نجدهم اقل حظا من الكبار اولئك الذين يجمّعون او يمركزون اكبر وأضخم وسائل الاعلام والاتصال في العالم. لكن في الآن نفسه نجد ان هذا الذي نرى منه الخطر نرصد فيه ايجابية اخرى ما كانت البشرية لتحلم بها وهي وسائل الاعلام او البث عبر «الواب سايت» فعبر الانترنات يمكن ان تشهد ميلاد صحيفة او مجلة وهي جميعها تخدم المجال الاعلامي والاتصال من حيث انتشاره وانخفاض سعره. لكن اعود فأقول ان مركزة وسائل الاتصال الكبرى بين ايدي القلّة، تهدد فعلا بإحداث او بثّ نمطية ثقافية كثيرا ما يأباها البشر. نحن الآن امام فسيفساء من وسائل الاعلام فهناك الكثير من المعلومات لكن هناك العديد من الطرق للاعلام. العالم تغيّر والمشهد الاعلامي الوطني والعالمي تغيّر كذلك. ففي فرنسا كنا قبل 40 سنة، لا نعتقد البتة في ان التلفزة مثلا ستصبح يوما مجالا خارج نطاق او تحكّم او نظر الدولة. قبل اربعين عاما كانت التلفزة تمثل «صوت فرنسا» اليوم نجد اقتحاما غير عادي من الباعثين لمجال التلفزيون وملكية الفضائىات والذين يرون في المجال السمعي البصري مجالا للربح او هو مجال متاح من قبل الليبيرالية الاقتصادية التي تنظم قوانينه بالتالي فهو مجال استثمار وتنافس مثله مثل اي مجال آخر للانتاج هدفه الربح وتوسيع السوق. لقد كان الجنرال «ديغول» يقول عن فضاء التلفزة: «انه وسيلة هائلة للتعبير عن الوحدة الوطنية وعن الضمير الجماعي للامة» اليوم لا يمكن ان ندّعي هذا الكلام عن التلفزة... ان الفضائىات الآن كالفقاع.. ولا احد يقدر على القول انها تعبّر عن الضمير الجماعي لأمة ما... من خلال هذه الفضائيات المتعددة والتي اغرقت المشهد الاعلامي بكثرتها، يمكن القول كذلك ان هناك ايذاء او قلقا تواجهه الثقافة من هذه الزاوية، بمعنى طريقة التعلّم والتزوّد بالمعلومة وتكوين «الفكرة القومية» و»مفهوم الفضاء العمومي» اذن الطريقة تغيّرت كما ذكرت آنفا. وهذا فيه عدم ارتياح بل ازعاج للمجال الثقافي. كل هذا الذي يحصل يحدث حالة من الدوران... فوسائل الاعلام ومن خلال محتوياتها وبرامجها تبحث الان عن الفرد، بل هي تخاطب الفرد وتبتعد عن لغة الجماعة ، اذن هي وسائل اضحت تفرق ولا تجمّع المشاهدين والمستمعين... فكل البرامج الآن تخطط للوصول الى الفرد بمفرده او بفردانيته. اليوم يشهد العالم ثقافة «الفردانية» وهذا خطر على الديمقراطية نفسها من قبل الجمهور الذي اضحى وفق هذه الزاوية التي تتبعها وسائل الاعلام، تنآى عن الحياة السياسية ولم تعد تهتم بالحياة العامة اذا كان مفهوم التواصل يعني في الاول خلق فضاء الجماعة ويبحث عن فضاء مشترك بين الأفراد، فإن عملية التواصل هذه انعدمت اهدافها بفعل قوة الاستهلاك، بحيث اضحى العالم الخاص والفردي متفوق على «الفضاء العمومي» وكذلك اضحت الفردانية وعدم الإكتراث بكل ما هو عمومي وجماعي يتفوقان على حساب صورة ذاك المواطن الذي يهتم بالفضاء العمومي. * في فرنسا اللائكية، يحدث ان تقوم ضجة فقانون حول مظاهر دينية معيّنة والعديدون ساندوا هذا التوجه ولفرنسا الحرية في ذلك اذا كانت تتصرف وفق اهداف الجمهورية اللائكية التي تضمن حق العبادة والتدين لكنها لا تسهم في بثه في المدارس بالتحديد. طيب الى هنا يمكن ان نفهم السبب والهدف ونقتنع. لكن المشهد الاعلامي، حصل فيه ما يمكن حسب اعتقادي ان يخلّ بهذا التوازن الذي ترنو اليه فرنسا اللائكية: في فرنسا تلفزة باسم ديانة قناة يهودية هكذا وبهذه التسمية الدينية، ولكم ايضا في المشهد الاعلامي المكتوب مجلة أخرى تحيل تسميتها الى المسيحية. ورغم حرية الاعلام وحرية الاستثمار فيه، الا تعتقد ان هذا باب ان فتح لن يغلق، أليس في هذا الامر مسّا بمبادئ الجمهورية والدولة اللائكية التي لا تريد الانحياز لأي من الأديان؟ ان دولة الجمهورية حامية للشعائر الدينية على اختلافها اليهودية والمسيحية والاسلامية ففي السجن كما في ثكنات الجيش، هناك حضور لرجال الدين من الديانات الثلاثة. وهذا قانون مطبّق في فرنسا وهو قانون عادل لانه يسوّي بين الديانات. كذلك الامر في التلفزيون والراديو التابعة منها الى الدولة، تجدين برامج متساوية في التوقيت بين الديانات الثلاث الكبرى بفرنسا. فهناك برامج دينية، وهذا يعني ان «الفضاء العمومي» لا يمنع التعبير او ممارسة الشعائر الدينية، الشرط الوحيد في هذا الباب هو السهر على تعايشها فيما بينها، بدون ان يحدث الامر زعزعة للنظام العام، لان كل ديانة، وهذا يدخل ضمن مفاهيم الدين بذاتها، تعمل عادة على الخروج عن اطارها الخاص بها لتمسّ ديانة اخرى فإذا ترك الامر ربما للديانات وحدها لتحدد مسارها فإنها سوف تخرج كل منها عن مسارها لتمس الآخرين، على كل هذا رأيي، وبالمحصلة ووفق هذا يجب التصدي لكل مظاهر الخروج عن «النص» مثل كلمات «الحرب الصليبية»... لكن ما حصل في فرنسا بالنسبة للمدارس فلأنه يجب ان ننأى بالمدرسة عن كل هذه المظاهر والمؤثرات فالمدرسة ليست فقط فضاء عموميا، فحسب بل هي ايضا فضاء مدني. فهي فضاء لتكوين الاجيال ففي الفضاء المدرسي تمنع الدولة الفرنسية مختلف مظاهر التدين او التعبير عنها في هذا الفضاء بالذات، او مظاهر التمايز بين الديانات داخل المدرسة شأنها شأن مظاهر التمييز العنصري او الاثني او الاجتماعي او الاقتصادي داخل مدارس فرنسا فهي الفرصة الوحيدة (اي المدرسة) التي نمكّن فيها الطفل من ان يكبر بحرية وان يتمكّن من الاختيار بنفسه دون مؤثرات.. لكن ان توجد جرائد لها مرجعية دينية او هي تابعة لجهات دينية او فضائية مثل «القناة اليهودية «T.V. Juive»... فلا أدري.. فهي تنتمي الى المشهد العام، وربما مثل هذه الوسائل يمكن ان تقدّم اخبارا هامة ومحايدة... يمكن ان تقوم بإعلام جيّد. * هذا ليس أكيد... وإلا ما كانت لتكون لها مرجعية او تسمية دينية؟ نعم المهم الاعلام والاخبار والعمل الاعلامي الجيد... ثم لا يمكن ان نقارن فضاء تربويا: المدرسة يرتادها اطفال مع تلفزة موجهة لعموم الجمهور. * لكن الطفل اليوم، لا يكون اختياراته ولا يخضع الى التربية في الفضاء المدرسي فحسب بل كذلك عبر التلفزة هذا الجهاز الذي يقضي امامه لطفل ساعات بلا رقيب ولا حسيب؟ نعم هذا صحيح، ففي فرنسا بإمكانك ان تتوصلي بحوالي 200 فضائية على الاقل، ونجد في المشهد من الفضائىات الاخلاقية الى الاباحية الى قنوات التسويق مرورا بالثقافة والقنوات السينمائية... صحيح نحن الآن في عصر نلمح فيه الطفل بمفرده امام التلفزيون وهذه نظرة خاطئة من الأولياء تجاه خصوص التلفزة فالعائلة اليوم (الزوج والزوجة) تعتبر ان التلفزة هي بمثابة الحضانة، التي يمكن ان نودع امامها الاطفال ليذهب الابوان كل الى شأنه... هذا الامر خاطئ بل وخطير.. لقد تخلص الوالدان من مسؤوليتهما تجاه الطفل عبر تركه امام فضاء تلفزي بلا رقيب... لقد اخطأت العائلة عندما اعتبرت ان التلفزة محضنة! لكن يبقى سؤالك مطروحا... وهذا موضوع آخر يُفتح للنقاش... لم لا؟ * المشكل هنا الذي اردت اثارته، انه كثيرا ما نسمع بل ويجبروننا على التعلّم من الغرب على اساس انه مثال لتفريق السلطات، مثال للموضوعية مثال التفريق بين الفضاء العمومي والفضاء الخاص والمختص، لكن نشهد عندكم اشياء مغايرة وكأن الرسالة تريد منا ان نتخلص من شخصيتنا الحضارية لفائدة شيء ما سرعان ما تبيّن انه غير قابل لأن يكون محل تعامل موضوعي وهو غير قابل للتجسيد عندكم انتم رافعوا هذه الشعارات ومؤسسوا هذه النظريات؟ نعم قلت لك ان الموضوع يجب ان يخضع للنقاش، وفي ذهني صورة لمرة كنت عائدا وزوجتي من اسرائىل على طائرة الشركة الاسرائىلية المعروفة. والطائرة كما نعلم هي فضاء جماعي عام وليس فضاء خاصا ولا مختصا، يصعد في الطائرة الاسرائىلية المتدين وغير المتدين الاسرائىلي وغير الاسرائىلي... ماراعني الا وممرات الطائرة تتحول الى مكان للعبادة او لأداء الصلاة وقد فوجئت انا وزوجتي حد الانزعاج لأننا وجدنا انفسنا في حالة تسمّر في مكاننا، بحيث لم يعد ممكنا التنقّل بين الممرّات... فقد تحوّلت ممرات الطائرة الى ما يشبه الكنيس... فهذا التعبير دينيا كان او اي صنف من التعابير البدنيّة، يصبح اكتساحا للآخر ولحريته... إذن القضية واضحة يمكن، أن يكون لنا تلفزيون بتسمية دين معين، ويقدم اعلاما جيدا... ويمكن أن نكون في فضاء عمومي مثل الطائرة ويتحوّل الى مكان للعبادة... سواء اليهودية او الاسلامية... فأنتم المسلمون مثلا، أتصوّر أنه يحدث شيء كهذا منكم في الطائرات؟ * لا أبدا، في الاسلام بامكانك أن تصلّي بعينيك... وأنت جالس في مكانك في مقعدك تؤدّي صلاتك... أتظنّ أن الحجيج مثلا الذين يتحوّلون الى بيت الله الحرام (مكة) عبر الطائرات يحوّلون ممرّات الطائرة الى مساجد؟ أبدا. آه، هذا جديد لا أعلمه... * الغرب مازال بعيدا عن معرفتنا... ومازالت امامه اشواط كي يرفع الضباب الاعلامي او «الكليشيهات» التي ينظر بها إلينا. المهم، ننتقل الان الى سؤال موال فأقول: الحرب... والصّراع الحضاري... والحوار بين الحضارات... وحرب الاعلام.... واعلام الحرب، كلّها مفاهيم وصور شهدناها طوال 13 سنة وفي مناسبتين كبيرتين، الاولى في حرب الخليج 91 والثانية في الحرب على العراق 2003، ما هو رصدك أو تقييمك لما حصل، ودائما من الزاوية الاعلامية البحتة؟ نعم الاعلام يصنع الحرب. لكن ليس خاصا بالحربين اللتين ذكرت. فهذا الامر منذ الازل. فعندما تبث اعلاما ومعلومات لارباك العدو... فهذا يدخل في نطاق الحرب الاعلامية التي تحضّر للحرب العسكرية... وعندما ترى اليوم صورا ومعلومات حتى وان كانت مغايرة للواقع والحقيقة وهدفها صنع الحرب او اقامة الحرب، لا تحسّ ان أمرا قد تغيّر من حيث الجوهر... فالاعلام يصنع الحرب... من خلال بث معلومات خاطئة القصد منها العدو او القصد منها شدّ الجمهور ونيل مساندته للحرب. لكن الحروب العصرية اليوم، وأكثر من الحروب الاخرى نجدها تستعمل الدعاية... لأن الرأي العام يكون منفتحا اكثر زمن الازمات او هو متعطّش لتقبّل الاخبار، وبالتالي فإن هذا الوضع يساهم في توسيع دائرة المشاهدين والمستمعين والقرّاء... * ألا ترى في الامر خطرا، أنت الذي تبحث في علم الاعلام والاتّصال؟ بالطبع... هذا خطير، ولكنّه ليس وضعا ملفتا. الحرب لا تربح بالسلاح فقط بل بالرأي العام وخاصة بواسطة الهمة المرفوعة والمعنويات العالية التي يتحلّى بها الطرف الذي يبدأ او يقوم بالحرب. اليوم، بدأنا نسمع ونشهد الحرب الوقائية، وهنا يكفي أن يطمئن القائمون بالحرب عائلات الجنود والناخبين حتّى يمكن الحديث عن تفوّق في الحرب او كسبها، الحرب ذات تكلفة عالية جدا. وبالنسبة لامريكا مثلا، لابد من أن يكون الناخب الامريكي على بينة وعلى قناعة بأن رئيسه يستعمل القوات العسكرية في الاتجاه الصواب والا فانه يخسر الحرب والانتخابات معا. ولكن كيف السبيل لاقناع الناخبين؟ هذا هو دور الاعلام والتلاعب بالرأي العام. وهذا ليس حكرا اليوم على «الديمقراطيين» أو «الجمهوريين» بل كلاهما. فقد رأينا الان كيف يريد كلاهما توحيد الأمّة الامريكية ومن ورائها توحيد العالم عبر الحلفاء من اجل تبرير تلك الحرب. فالديمقراطيون لم ينقدوا مبدأ الحرب على العراق، ولم يصلوا الى حد نقد ارسال جنود امريكيين الى العراق، لكن بالمقابل نجد ان الامر اشد تعقيدا في بريطانيا. فوضع بلير اشد حرجا من وضع بوش... ومسألة الخبراء الامميين الذين كشفوا انهم لم يعثروا على سلاح دمار شامل في العراق، وأنه غير موجود اصلا، وانتحار العالم البريطاني «كيلي» كلها حقائق وضعت «بلير» في بوتقة حرجة تجاه مسألة الحرب اكثر مما فعلت هذه المستجدات مع بوش. لقد نجح بوش في تجاوز هذه المسألة عكس بلير، لكن الوقت يتسارع الان ضد بوش باعتقادي، خاصة اذا بقي السلام في العراق متأرجحا مثلما هو عليه الان. فبوش يمكن ان يخسر الانتخابات امام الديمقراطيين. لكن اعود الى الاتصال والاعلام الذين يمكن ان يخوضا حربا، لأقول إن الحرب الحديثة تعتمد ايضا على الاتصال الالكتروني، بحيث يعمد طرف في الحرب الى التشويش على رادارات الطرف الاخر او الدخول مباشرة عبر ذبذبات و»فيروسات» الى مجال الاتصال للاخر... او التدخل في الارسال عبر المناورة والتلاعب. وبث المعلومات الخاطئة للطرف المقابل. وهذا التدخل يمكن ان يصل حد تحويل وجهة الصواريخ اصلا. او عبر ايهام العدو بمنصّات صواريخ أو دبّابات كرطونية، حتى يتمّ استدراجه وجعله يخسر السلاح بلا هدف يناله. وهذا الامر نتذكّره جيدا في حرب 91 حين عمد صدّام حسين الى الخديعة فوضع دبابات «كرطونية» واستمرّ القصف الامريكي عليها فظن الجميع ان العراق انتهى. هذه حرب جديدة وعصرية، تعتمد على التشويش الالكتروني داخل المجال العسكري للعدو وكذلك اعتماد الخديعة... فالسلاح اليوم موجّه بالليزر عبر «الكمبيوتر» وليس موجها بالعين. الحرب عبر الاتصال تبدأ من هنا، لأن قيادة السلاح اليوم اضحت الكترونية، والاسلحة الجديدة اضحت وفق ذلك. سريع العطب، ما ان تخترقه ذبذبة حتى يتوه جهاز التحكّم بذاته. هذا الجانب التقني ايضا نجده مؤثّرا ومهمّا. لكن هناك فعل نفسي يمكن ان يقلب الحرب ونتائجها رأسا على عقب. ففي فيتنام مثلا، كانت تلك الصور للجنود الامريكان الذين قتلوا اثناء الحرب قد جعلت الامريكيين يخسرون الحرب... فقد ارتبك الامريكيون امام تلك الصور وخرّوا امام الفيتناميين، رغم ان الامريكان لم يكونوا خاسرين للحرب وقتها... البيانات الحربية تشعل حربا كذلك... إذن كلّها عناصر جديدة، مع الاسف سخّرت للحرب مثل التقدم التكنولوجي، ووسائل الاتصال المتقدمة. أما الاعلام في كل هذا، فالاكيد ان الصحفيين غير راضين لأنهم لم يعودوا بعد «فيتنام» على ما أظن، قادرين على القيام بعملهم، فمشكل الصحفي اليوم ان يبقى رغم انفه محايدا في الحرب، من خلال تحديد الطرف الذي يقوم بالحرب لزاوية ومكان اخذ المعلومة. إذن أقول هنا إن اول ضحية للحرب هو الاعلام. * أسأل الان العالم في مجال علوم الاتصال والاعلام عن هذه الحرب الاخيرة ضد العراق، وكيف تراها من مقياس الشرعية، فقد قال استاذ القانون الدولي «آلان بيلي» Alain Pellet في مقال نشره بجريدة «لوموند» يوم 22 مارس 2003 يومان بعد انطلاق العمليات الحربية الامريكية على العراق بأنها حربٌ عدوان، ونفس الشيء قاله المحامي أ. جاك فرجاس وكلاهما ابنا بلدك من فرنسا التي عارضت الحرب. فماذا يقول أ. «دانيال بونيو»؟ نعم تلك الحرب كانت وبكلّ المقاييس عدوانا، إذ ليس هناك رابط بين احداث الحادي عشر من سبتمبر ونظام صدام حسين. إذن القول ان الحرب على العراق في 20 مارس الماضي كانت ردّا على احداث الحادي من سبتمبر هو كذب وهراء بل إنه سفسطة. من جهة أخرى، تبين ان مسألة سلاح الدمار الشامل كذبة وهي غير صحيحة كحجّة لأن السلاح غير موجود. وحتى وان كان الامريكيون يريدون تحطيم الاسلحة المذكورة والمنعوتة بالدمار الشامل، فإن خبراء الأممالمتحدة هم وحدهم المؤهلون لهذا العمل ولهذه المهمّة. فقد كان محبّذا ان يكون النهج الاممي هو المعتمد... لقد اخطأ الامريكيون حين اخذوا المبادرة وحدهم خارج نطاق الشرعية. واعتماد العنف والعدوان حتى تحارب دولا مارقة فهم (الامريكان) يقولون يجب انهاء هذه الدول المارقة لكنهم يتصرّفون كذلك عبر احتقارهم وتجاهلهم للامم المتحدة، والتعامل مع صدّام وكأنه عنصر من القاعدة. هذا خطأ. لكن من جهة أخرى أجدني أفرح عندما يزيحون صدّام. لقد كان نظاما قاسيا، لكن هذا الامر الذي حصل مع العراق يبعث على التساؤل: من هو الطرف الموالي... على من الدور الان بعد صدّام؟ لقد أحدث الامريكان سابقة وبينوا انهم يقدرون على التدخل ضد عديد الانظمة والعواصم بدون الاممالمتحدة. سوريا يمكن ان تكون مهدّدة... لماذا يفعل الامريكان هذا؟... فقط لانهم الأقوى ولانهم الوحيدون في العالم ... هناك لعبة معقّدة فالامريكان يقدرون الان على التمكن من أنظمة اخرى. * إنني أحتار كثيرا، حد الحزن، ان اجد أمامي اساتذة كبارا مختصّين ومتفطّنين لاسلوب الدعاية وعلى يقظة في الامر، وقد كنت منذ قليل تحدّثني عن ذلك. فكيف يمكن ان تشك في نوايا الامريكان تجاه العراق عبر الحرب، وأن تقبل «صورهم» و»خطابهم» وكأنه صحيح تجاه جزء من المشكل. الا يدعوك هذا التأكيد على شخصنة النظام العراقي الى التساؤل لماذا العراق بالذات؟ ماذا حدث في هذا البلد حتى يكون مستهدفا وحده دون غيره، رغم أنه ليس الوحيد اللاديمقراطي في تلك المنطقة؟ إنني أعجب، وأعيد عليك السؤال: ماذا تعرف عن العراق؟ وهل صحيح انك تعتقد أنها حرب أمريكية غير شرعية. فالشرعية لا تقيّم على طريقة نعم.... لكن «oui... mais»؟ والآن عندما اصبح العراق في عداد الدول الفقيرة والمحتلة ايضا، بلا سلاح ولا جيش ولا مؤسسة، كيف ترى التعامل مع اسرائيل الان التي تخزّن السلاح كما يخزّن الاغنياء البخلاء الاكل والمؤونة ويمنعون عنها عامة الناس، ما العمل مع اسرائيل الجدار الفاصل، واسرائيل النووي واسرائيل القنابل المحرّمة واسرائيل الاحتلال. ثم أي توازن في المنطقة يمكن ان يسود غير الاستقواء الاسرائيلي؟ إن الذي ذكرت كلّه يحوي أمورا ملفتة... (الاستاذ دانيال بونيو يأخذ قليلا من الوقت للتفكير وكأنه يبحث عن شيء)... هذه أسئلة مهمّة. صحيح لا أعرف العراق، ولكني أسمع وأقرأ... طيب، هناك أشياء يمكن ان تدفعني دفعا لمزيد نهل معلومات عن هذا البلد... نعم ا نا أجهل العراق... وعليّ أن أعيد النظر في دفاتري ومصادري... بالنسبة لاسرائيل، قلت لك في البداية اني ذهبت الى اسرائيل، لكني عدت منها أشدّ مناصرة للشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية من ذي قبل. لأن اسرائيل تحتل اراضي فلسطينية لكن في الآن نفسه نحن في فرنسا، ننتقد كثيرا الانحياز الامريكي، لأن ذلك من شأنه ان يعقّد القضية... قضية السلام. المشكل ان الامريكيين لا يحسّون معنى التاريخ، فهم ليسوا من التاريخ، بل دولة حديثة... الغزو لم ينته و»الواستارن» «Western» لم ينته بل أصبح نحو الفضاء الان... كذلك الشأن بالنسبة للاحتلال... لكن كيف يمكن اقناع امريكا بهذا...؟ لا ادري، يمكن ان يكون الامر موكولا الى «اوروبا القديمة». * الآن نأتي الى نقطة التقاء الفيلسوف برجل الاعلام والاتصال برجل الثقافة والآداب الفرنسية، الكامنة في ذات ووجدان أ. دانيال بونيو، لأسأله عن «آراغون» والحضارة العربية في الاندلس و»مجنون ليلى» و»مجنون إلزا» «Le fou dصElza» والقصيد الشهير «لآراغون» ذي ال 400 صفحة، اي لقاء لك «بآراغون» واي حس يتخلّلك من خلال شعره تجاه الاندلس، وسقوط غرناطة، ونحن العرب نشهد سقوط بغداد وكان آراغون قد خطّ ما خط من أشعار عن سقوط غرناطة وعن الأندلس وهو لا يدرك بعقله أن سقوط الاتحاد السوفياتي كان وقتها على مرمى حجر؟ وأن سقوط «بغداد» بانية الاندلس امر آت لا ريب فيه... أين الحقيقة وأين الافتراضي «le virtuel» في كل هذا؟ طبعا هو أكبر كاتب فرنسي شاعر وله معتقد سياسي (كان شيوعيا)، لم أكن شيوعيا ولا أنتمي الى ديانة معينة، فأنا لائكي. نعم مات آراغون في 1982، وكان عميقا في اشعاره وكتاباته وكان حساسا... مناضلا بأتم معنى الكلمة، له احساس مرهف، وتكشف اشعاره الكثير من الالام والاحاسيس المرهفة التي يتحلّى بها «آراغون»، لقد عانى بوصفه شيوعيا وكان مجاهدا ومناضلا لا تنضب حيويته واقدامه. في حرب الجزائر (حرب التحرير) التي انتهت في 1963، كانت قصيدته من اضخم ما كتب «آراغون» الوحيد الذي خصص كل هذا الكم من الصفحات لقصيد واحد (400 صفحة) تلخّص سقوط غرناطة (سنة 1492) وما سبق الحدث وبعده من أحاسيس السقوط... وهنا يمكن القول فعلا، أن «آراغون» ومن خلال أحاسيسه المرهفة كان يتمثل سقوط «الاتحاد السوفياتي» الذي كان بالتأكيد يمثّل الكثير لمناضل شيوعي مثل «آراغون». كان «آراغون» وكأنه احس عن بعد في الزمن، قرب سقوط حلمه من خلال مأساة «مجنون الزا» والمأخوذة قياسا من «مجنون ليلى»... وطبعا «الزا» هي زوجة آراغون. الشاعر يتحدّث في القصيد عن جنونه يحب «الزا» قبل 400 سنة، من ولادتها... لكأن فكرة المستقبل المستحيل للحلم الحقيقة والذي هو في الواقع مستحيل، قد سيطرا على نفسيّة الشاعر... الاحداث تعود الى اربعة قرون، ومن خلال الشاعر المجنون بحب «إلزا» يعرّف «آراغون» بمظاهر الحضارة العربية الاسلامية المتطوّرة في الاندلس لكنها كانت بلا مستقبل في الاندلس، وأنها آيلة للانهيار... وهنا لابد ان لا نغفل ان «آراغون» يكتب هذا القصيد ذي ال 400 صفحة وهو في الثالثة والستين من عمره، حيث أمكن لشاعر في مقتبل الشيخوخة ان ينسج عذاباته ويخطّ عبر نسيج لغوي وحسّي عذابات رجل مغرم... وهنا نعود الى علم الاتصال والاعلام، لنأخذ من هذه اللوحة كيف أن الانسان العادي والانسان العام السياسي، يلتقيان في نفس النسيج ليختلط هذا الانسان بمأساة غرناطة المذبوحة... غرناطة الجريحة.. انه قصيد مبهر من خلال هذا الخليط والتمازج بين الدراما والحميمية والمأساة التاريخية انه قصيد جميل... وهو الى جانب جماليته يعلن عن ميلاد القرن الذهبي لاسبانيا. فهو نص عظيم ويليق ب «آراغون» وهو ليس صدفة من «آراغون» ولا «آراغون» صدفة بالنسبة لهذا القصيد... لقد تعلّم آراغون العربية وكتب القصيد بطريقة الشعراء العرب من حيث الصور والايحاءات.