أشرف الرئيس زين العابدين بن علي صباح أمس بمدينة قصر هلال على موكب احياء الذكرى السبعين لانبعاث الحزب الحر الدستوري الجديد في 2 مارس 1934 . وألقى الرئيس زين العابدين بن علي في اجتماع احتضنته القاعة الكبرى لدار التجمع الدستوري الديمقراطي بقصر هلال خطابا استعرض فيه بالخصوص ظروف انعقاد هذا المؤتمر الحاسم في تاريخ الحركة الوطنية باعتباره البداية التي مهدت لتطوير الحزب وتجذره وانتشاره. وبمناسبة هذا الحدث التاريخي خصت مدينة قصر هلال الرئيس زين العابدين بن علي باستقبالات شعبية حارة وحماسية. وفي ما يلي النص الكامل لخطاب رئيس الدولة. «نحتفل اليوم بكل فخر واعتزاز بالذكرى السبعين لانعقاد مؤتمر قصر هلال لحزبنا العتيد احياء لهذا الحدث الوطني البارز وتقديرا لتضحيات شعبنا ولمآثر قادته وزعمائه وحرصا منا على صيانة الذاكرة الوطنية وتنشئة الأجيال الجديدة على الاعتزاز بتاريخ تونس وأمجادها. وإذ نعرب عن سعادتنا بوجودنا اليوم في مدينة قصر هلال مدينة 2 مارس 1934 وعن عميق تأثرنا لما لقيناه من استقبال شعبي مليء بمعاني الاخلاص والوفاء فإننا نؤكد تقديرنا لهذه المدينة المناضلة مكبرين مكانتها التاريخية واسهامها في الكفاح الوطني وانخراطها اليوم بعزم وجد في مسيرة التغيير والاصلاح من أجل رفعة تونس وسؤددها. كما أتوجه بالشكر إلى المناضلين والمناضلات من كافة الأجيال والفئات الذين جاؤوا من مختلف الجهات للمشاركة في احياء هذه الذكرى التاريخية المتميزة مجددين بذلك الحدث الذي عاشته مدينة قصر هلال منذ سبعين سنة. لقد كان مؤتمر قصر هلال منعرجا حاسما في تاريخ الحركة الوطنية بفضل المبادرة التاريخية الرائدة التي أقدم عليها الزعيم الحبيب بورقيبة فجدد بها روح الحزب النضالية وقدرته على الاضطلاع بمهام الكفاح الوطني. وسيظل هذا المؤتمر علامة عميقة الدلالة على عراقة حزبنا وريادته ومواكبته للتحولات ومواجهته لرهانات كل مرحلة واثرائه المتواصل لرصيده الزاخر بجليل الأعمال والانجازات لفائدة الشعب والوطن. انها شرعيته التاريخية التي بناها بكفاح مناضليه ومناضلاته منذ انبعاثه سنة 1920 فكان الحزب السياسي والمدرسة الوطنية والفكرية الوريثة لحركات الاصلاح التي عرفتها تونس منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر اثرتها حركة الشبان التونسيين في أوائل القرن العشرين وكان الحزب الذي قام بحملات التوعية والتعبئة والتأطير وحمل مشعل النضال والمقاومة والتحرير. وإذ تتمازج في نفوسنا اليوم مشاعر الوفاء والتقدير للجيل الأول من المؤسسين من رجالات حزبنا ومناضليه فإننا نستحضر ما تكتسبه تلك المرحلة من أهمية باعتبارها البداية التي مهدت لتطور الحزب وتجذره وانتشاره. فميزة هذا الحزب وسرّ استمراره وقوته التواصل والترابط بين أجيال مناضليه ومناضلاته تجمع بينهم مبادؤه ورسالته الخالدة والواجب المقدس في الذود عن حرمة الوطن وكرامة الشعب وان اختلفت الاجتهادات وتنوعت أساليب العمل والنضال من جيل إلى آخر وقبل الاستقلال وبعده بحسب ما تقتضيه رهانات كل طور وتحدياته. اني أؤكد في هذه المناسبة اكبارنا للدور التاريخي للزعيم الحبيب بورقيبة في ذلك المنعرج الحاسم ومعه نخبة شابة من رجالات الحزب أمثال الدكتور محمود الماطري والطاهر صفر ومحمد بورقيبة والبحري قيقة وغيرهم ممن ساندوا عقد مؤتمر قصر هلال الاستثنائي لاعلان بعث الحزب الحر الدستوري الجديد والدخول به في طور متقدم من العمل السياسي والنضال الوطني. وقد كان مؤتمر قصر هلال «بعثا» جديدا وفر للحزب المقوّمات اللازمة من حيث البرنامج السياسي والتنظيم والهيكلة وطرق العمل وضبط الأهداف. كما مكنه من أسباب الانتشار والاشعاع والتأثير في الواقع وفتح أمامه طريق الثورة على الاستعمار ووضعه على درب الكفاح والمواجهة التي أفضت إلى تحرير البلاد. وإذ نستخلص العبرة في مثل هذه المناسبة من هذا الحدث التاريخي الكبير فلابدّ أن نقف على أهمية دور الشباب فيه وفي سائر المحطات الهامة التي مرت بها البلاد بما يؤكد المنزلة الرفيعة التي استأثر بها الشباب في سياسة الحزب باعتباره مصدر حيويته وعنفوانه ومنبع طاقته التي لا ينضب لها معين. كما يجدر بنا ابراز ما كرّسه مؤتمر قصر هلال من دور أساسي للقواعد في أخذ القرار ومن صدق وصراحة في طرح القضايا وحرية في التعبير عن الرأي والتفاف كامل حول القيادة وهي تقاليد كانت وستظل مصدر قوة حزبنا وفاعليته وسببا لنجاحه في انجاز مهامه التاريخية. ومما يزيد في الأهمية التاريخية لمؤتمر قصر هلال اعتماده استراتيجية سياسية جديدة راهنت على توعية الجماهير وتحريكها وتعبئة مختلف فئات الشعب وشرائح المجتمع لمواجهة الاستعمار وتحرير البلاد. انه الاختيار الذي غدا الحزب بفضله حزبا شعبيا عريض القواعد فتعززت بذلك شرعيته وتمكن في المراحل اللاحقة من قيادة المجتمع بمختلف مكوناته ومنظماته وجمعياته في كل المعارك الحاسمة التي خاضها من أجل الاستقلال وبناء الدولة وارساء النظام الجمهوري. لقد رسم مؤتمر قصر هلال الخط النضالي الجديد وهيأ الشعب لملحمة الكفاح الوطني بمختلف أطوارها وما جد فيها من احداث جسام بدءا بحوادث 8 و9 أفريل 1938 فثورة جانفي 1952 ووصولا إلى نيل الاستقلال واسترجاع مقومات السيادة والكرامة. وهي ملحمة مجيدة رسخت شرعية حزبنا بفضل تضحيات اجيال متتابعة من المناضلين والمقاومين واستشهاد الكثير منهم فداء للوطن وكذلك بفضل صمود قادته في الكفاح وفي مقدمتهم الزعيم الحبيب بورقيبة محرر البلاد وباني تونس الحديثة. ان حزبنا عريق بتاريخه عظيم بانجازاته رائع برصيده النضالي وبعطاء قادته وزعمائه. واننا على قدر اعتزازنا بأمجاده وبطولاته نراهن دوما على طاقة العمل الهائلة الكامنة لدى أبنائه وبناته. وبهذه الروح روح الوفاء لمبادئ الحزب ورسالته النبيلة بادرنا غداة التغيير بانقاذه وصالحناه مع ماضيه التليد واعدنا إليه اشعاعه وعنفوانه ومكناه من أسباب الفاعلية والنشاط واسترجاع دوره الفاعل داخل المجتمع وائتمناه على التغيير وعلى ترسيخ مبادئه وخياراته ايمانا منا بأنه لا أقدر من حزبنا العتيد على الاضطلاع بهذه المهمة ولا أجدر من مناضليه ومناضلاته بتحمل هذه المسؤولية الجسيمة. لقد كانت عملية انقاذ الحزب لحظة حاسمة جدد فيها العهد مع التاريخ وانجازا تكامل فيه ايماننا بخيارات حزبنا التاريخية مع ادراكنا لضرورة تطويره في ضوء تقدم المجتمع وتجدد المشاغل والأهداف والرهانات لذلك اثرينا مرجعيته ونظمنا صفوفه وجددنا برامجه وارتقينا بأداء هياكله ومناضليه واعدنا المبادرة إلى قواعده وراهنا فيه على الشباب والمرأة وفتحنا مجالات نشاطه رحبة امام النخب والكفاءات. وان ما يزخر به تجمعنا اليوم من طاقات تنتمي إلى مختلف الأجيال والفئات والجهات وما يضطلع به من جليل الأدوار في تحقيق مكاسب تونس وصيانتها هي عوامل ايجابية تجعل منه حزبا حيا متجددا على الدوام يربط الماضي بالحاضر ويؤسس للمستقبل لأنه حزب جماهيري عريق قادر على استيعاب مشاغل الشعب وتحقيق طموحاته والتطور مع كل مرحلة من تاريخه. وان في التذكير بامجاد حزبنا وبانجازاته الباهرة ما يقوي فينا العزم على مزيد تعزيز صفوفه واكسابه مجالات أوسع من الفاعلية والاشعاع والتأثير. وإذ ندرك جسامة هذه المسؤولية في هذا الطور بالذات من تاريخ تونس فإن ثقتنا كبيرة بأن التجمع الذي اتخذ من الطموح شعارا للمرحلة الحالية سيكون في مستوى الامال المعلقة عليه لرفع التحديات وكسب الرهانات في جميع المجالات ولاسيما في مجال تكريس خياراتنا الحضارية وانجاز برامجنا من أجل مزيد التقدم في بناء مجتمع المعرفة والرفاه والتضامن. وقد جعلنا من مبادئ الديمقراطية والتعددية ونشر الحريات وحماية حقوق الانسان توجهات راسخة في مشروعنا الحضاري لا نحيد عنها وسنواصل التقدم بمسارها بكل ثبات. وان لنا في هذا العام محطات سياسية هامة ومواعيد في مقدمتها الانتخابات الرئاسية والتشريعية وسنعمل بعد ان هيأنا الاطار القانوني لذلك على توفير الظروف الملائمة حتى تكون الشفافية هي المبدأ واحترام الدستور وتطبيق القانون هما المرجع. وقد مكن الاصلاح الجوهري للدستور من ارساء دعائم جمهورية الغد ووفر الشروط اللازمة لمزيد تكريس سيادة الشعب وتجسيم ارادته ودعم مقومات دولة القانون والمؤسسات وتعزيز الديمقراطية وضمان حقوق الانسان ومواصلة تطوير الحياة السياسية في البلاد بما يجسم ارادتنا ويتماشى مع ما بلغه شعبنا من وعي وتطور. وإذ ستكون الانتخابات القادمة مناسبة متجددة لتعزيز مكانة التجمع على الساحة الوطنية في إطار المنافسة الديمقراطية النزيهة ومبادئ التعددية فإن حزبنا الذي حمل لواء التغيير وعمل على ترسيخ الديمقراطية في البلاد منذ بداية التحول يظل مسؤولا عن كسب هذا الرهان وتعميق الوعي بأبعاده كما أدعو القواعد التجمعية إلى أن تكون قدوة لغيرها في التحلي بضوابط الممارسة الديمقراطية واخلاقياتها. وإذ نعتبر مشروعنا في بعده السياسي والديمقراطي وفي مجال الحريات وحقوق الانسان جزءا لا يتجزأ من مشروعنا الحضاري ومقوماته الاصلاحية فإننا نؤكد ان مرجعيته وأصوله التاريخية تقوم على قيم التسامح والتفتح والتضامن والحوار مع بقية الثقافات والحضارات. ان هذه القيم من مبادئ ديننا الحنيف الخالدة وروحه الخالصة وهي لا تتعارض مع الخيار الديمقراطي التعددي ولا مع ثقافة الحريات وحقوق الانسان كما انها تنبذ مظاهر العنف والتطرف والارهاب وتعتبر التصدي لها من أوكد الواجبات في الاسلام. ان الارتقاء بتونس إلى أسمى مراتب التقدم الحضاري هو هدفنا الأكبر. وقد توفقت بلادنا رغم الصعوبات والتحديات إلى تحقيق نتائج باهرة على الصعيد التنموي بفضل ما نتوخاه من سياسة تقوم على التلازم بين البعدين الاقتصادي والاجتماعي. وبفضل ما اعتمدناه من اصلاحات هيكلية ومخططات وبرامج استراتيجية لاكساب اقتصادنا المزيد من القوة والصلابة وتأهيله للاندماج في منظومة الاقتصاد العالمي فالنجاح الكبير الذي وفر لمجتمعنا أسباب الرخاء والاستقرار وجلب لبلادنا مزيد الاحترام والتقدير يحملنا مسؤولية دعم هذه المكاسب وتعزيزها وهو ما أقبلنا عليه من خلال الانخراط في تحديث الاقتصاد الوطني امتدادا لبرنامج التأهيل الشامل الذي أكد نجاعته في تطوير اقتصادنا. وفي هذا الاطار أيضا تتنزل الأهمية الفائقة التي يكتسيها المخطط العاشر للتنمية الذي نحرص على توفير شروط نجاحه حتى يكون بما أدرجنا ضمنه من برامج وما حددنا له من أهداف خير داعم لمسيرتنا التنموية الشاملة. وان التجمع الذي اسهم بجهود متميزة في تكريس خياراتنا التنموية وتوفير التعبئة اللازمة لانجاح برنامج التأهيل الشامل هو اليوم مسؤول عن مواصلة الاضطلاع بهذه المهمة الوطنية الكبيرة مهمة تعزيز مناعة تونس والحفاظ على سيادتها وتحقيق نمائها ورقيها وتوفير الرخاء والازدهار لشعبها. وتحظى تونس اليوم باحترام العالم وتقديره بفضل شبكة واسعة ومتينة من علاقات الصداقة والتعاون التي تربطها بجميع الدول وما يميز سياستها من اعتدال وحكمة وتمسك بالعدل والسلم والشرعية الدولية في حل المشاكل القائمة وايمان ثابت بأهمية الحوار والتضامن والشراكة في بناء مستقبل أفضل للانسانية جمعاء. وهو اشعاع يتسع يوما بعد يوم ويتجلى من خلال ما تلقاه مبادراتنا على الصعيد العالمي من اجماع أممي مثل دعوتنا إلى انشاء صندوق عالمي للتضامن والقضاء على الفقر أو تكريس حق الطفل في ممارسة التربية البدنية والرياضة وتوفير الوسائل المتاحة لتكريس هذا الحق. وان التجمع الذي ساهم في اشعاع تونس بعراقته وريادته وعلاقاته المتميزة مع عدد كبير من الاحزاب الشقيقة والصديقة في العالم مدعو إلى مواصلة دعم هذه الجهود حتى تظل تونس منارة حضارية وضاءة على الدوام. ان مواجهة التحديات ومغالبة الصعاب قدر حزبنا وقدر مناضليه ومناضلاته في مختلف المراحل والأطوار. وان تجاوز العراقيل وكسب المعارك والفوز بالرهانات قوام مجده المتجدد على مدى التاريخ كذلك كان حزبنا بالأمس وكذلك حاله اليوم وسيظل غدا حزبا كبيرا فاعلا مشعا متفانيا في خدمة الوطن والشعب ينشر رسالة التغيير والاصلاح ويبني مستقبل تونس ومستقبل أجيالها المتعاقبة. وإذا كان شرف مناضلي حزبنا ومناضلاته على الدوام في انهم صانعو مجده وحاملو شعلته النضالية فإني أدعو التجمعيين والتجمعيات في الداخل والخارج إلى مواصلة العمل والنضال والتضحية لمؤازرة ما نبذل من جهود دؤوبة بعزيمة لا تكل وهمة لا تفتر اضطلاعا بواجبنا المقدس وبرا بالعهد الذي قطعناه على أنفسنا أمام الوطن والتاريخ عهد نجدده دائما بكامل الفخر والمسؤولية لتظل تونس حرة منيعة أبد الدهر ويظل حزبنا العتيد شامخا فاعلا ينهض برسالته الخالدة. قال تعالى: {وقل اعملوا فسيرى اللّه عملكم ورسوله والمؤمنون} صدق اللّه العظيم.