في المؤتمر الصحفي الذي عقدته في «بيت أمريكا» في مدريد، بمناسبة صدور روايتها الجديدة «مدينة الوحوش»، قاطعت إيزابيل الليندي بحزم سؤالا بدأ أحد الصحفيين بتوجيهه إليها قائلة : «لا أريد أن أقول اليوم كلمة واحدة عن بوش». وقد أجمع الحاضرون على قوة شخصيتها وسيطرتها الكاملة على المشهد. «لقد أكملت قبل وقت قصير الستين من عمري، وأنا أبدو جميلة بالنسبة لسني، أليس كذلك؟ ولكن هذا يكلفني ساعة كل يوم!، قالت ذلك الكاتبة التي تدخل اليوم عالم الكتابة للفتيان بروايتها الجديدة، وهي الجزء الأول من ثلاثية تعكف ألليندي على كتابتها بناء على طلب أحفادها ا لثلاثة، وتشير : هم أصحاب الفكرة. ففي كل ليلة أروي لهم قصة. والصغرى تعتقد أن هناك مستودعا للحكايات في مكان ما من العالم، وإنني أعرف كل حكايات ذلك المستودع. وقد أعجبتهم هذه الحكاية كثيرا، فطلبوا مني كتابتها، ولكنها خرجت في النهاية في ثلاثمائة صفحة. أظن أنها ستعجب الكبار أيضا. لقد تكلفت من الجهد في كتابة هذه الرواية مثلما تكلفته في رواياتي الأخرى، والفرق الوحيد هو أنني كنت مضطرة الى القفز عبر المشاهد الايروتيكية والحسية. بعد انقضاء عشرين سنة على صدور روايتك الأولى «بيت الأرواح»، ما الذي توصلت إليه؟ عندما صدر كتابي الأول، كنت أعمل في مدرسة في كاراكاس. لم تكن لدي تجربة في عالم الأدب، ولكنني تمكنت من تجاوز الصدمة بمساعدة وكيلتي كارمن بالثيس، وبحماية بعض الأرواح المشاغبة التي أرسلتها جدتي من عالم الغيب لمساعدتي، وواصلت الكتابة. لقد اكتسبت خلال هذه السنوات العشرين نوعا من الثقة. فقد كنت أشعر في البدء أن ذلك الكتاب هو أشبه بهدية، أو حدث في بعد أجهله وأتيح لي دخوله مصادفة، ولكنه لن يتكرر. أما الآن، فأنا أعرف أنه يمكنني الكتابة دوما إذا ما منحت نفسي الوقت والصمت لأصغي الى الشخصيات. يتساءل الروائي التشيلي خوسيه دونوسو عما اذا كان هناك شيء آخر سوى الأدب. هل يمكنك العيش الآن دون كتابة؟ يمكنني العيش دون كتابة، ولكنني لن أكون الشخص نفسه. ا لكتابة هي أشبه بعالم آخر مواز، أعيش فيه نصف وقتي، ولولا الكتابة لتحولت الى مجرد امرأة منفية أبدية. ما الذي كنت تعنينه وأنت تؤكدين أن الأدب هو رحلة بلا عودة؟ عندما بدأت كتابة «بيت الأرواح» لم أكن أعرف ما الذي أفعله بالضبط، ولكنني أدركت بصورة غريزية بأنني اجتزت عتبة سرية ودخلت الى مكان مظلم. وبعد صفحات قليلة أدركت أنني أملك بين يدي شيئا أقوى مني: مهر جامح، لا يمكن السيطرة عليه، قوي، مغامر، وعرفت أنني سأكرّس ما تبقّى من حياتي لإضاءة أركان هذا المكان بنور الكلمة المكتوبة. وعرفت أنني لن أتراجع عما بدأت به.. لقد تبدلت حياتي، وتبدلت أنا نفسي أيضا. هل تكتبين غريزيا؟ أبدأ الكتابة بذهن خاو مثل صفحة بيضاء تقريبا. وفي بعض الأحيان أعرف المكان والزمان اللّذين سأضع فيهما القصة، ثم أدخل بعد ذلك حاملة مصباحي في هذا العالم المظلم الذي ذكرته، وأبحث بصبر عن الشخصيات، فتبدأ بالظهور شيئا فشيئا، تكون غامضة وملتبسة في أول الأمر، وشبه بكماء، ولكن صورها تأخذ بالوضوح أكثر فأكثر، و يوما بعد يوم. ليست لدي فكرة عن سبب إقدامي على فعل أو قول ما يظهر على الورق، ولكنني أعرف أن هناك منطقا حتميا يقود مصائرهم. في أحد حوارات باولينا دل بايي مع حفيدتها، تقول لها هذه الأخيرة : «أنت خالدة يا جدتي». فتردّ عليها تلك : «لا يا صغيرتي، إنني أبدو كذلك فقط». وهذا يذكرني بحوار آخر في رواية «ثلوج الأميرال» لألفارو موتيس. ما الذي يوحي به هذا النمط من الشخصيات الذين يشرفهم أحدنا بالخلود؟ هؤلاء الأشخاص الذين يعتبرهم أحدنا خالدين هم أسود هذا العالم. وأنا أعرف اثنين منهم على الأقل: وكيلتي الأدبية كارمن بالثيس، وعرابي رامون هويدوبرو. لا يمكنني تصور العالم من دونهما. وإذا ما ماتا قبلي فإنني سأشعر بعمق بأنني وقعت ضحية خيانة. أنت كاتبة تغمس قلمها في الذاكرة.. ألا يأتيك كثيرون متذمرين مما تروينه ومن طريقة روايتك له؟ في البدء كان هناك من يتضايقون من كتبي، ولا سيما بين أفراد الأسرة.. يشعرون بأنهم عراة أو رسوم كاريكاتور. أما الآن فلم يعد هناك من يحتج، أظن أنهم اعتادوا على تقبل فكرة أنه لا يمكن لكاتب أن يبدد مادة جيدة متوفرة في متناول يده. فمع أسرة مثل أسرتي لا يحتاج المرء الى كثير من التخيل من أجل الكتابة. أين تنتهي حرية الكاتب؟ لا يمكنني الرد باسم كتاب آخرين، ولكنني أعرف بالضبط أين تنتهي حريتي. هناك مسؤولية أخلاقية، المسؤولية نفسها الملقاة على عاتق الأطباء : عدم التسبب بمزيد من الألم. فأنا على سبيل المثال لا أصف مشاهد تعذيب في رواياتي، رغم أني أعرف الكثير حول هذا الموضوع، لأني لا أريد وضع أفكار من هذا النوع في رأس قارئ معتوه. ولكنني أصف بالمقابل مشاهد الحب، لكي أضع أفكارا جريئة في رؤوس الخجولين. وأعتقد أن الكلمة المكتوبة تتمتع بسلطة هائلة، لهذا استخدمها بإحساس كبير بالمسؤولية. المبادرة في كتابة «باولا» جاءت من وكيلتك الأدبية كارمن بالثيس، عندما نصحتك بالكتابة من أجل تجاوز آلام المحنة. ولكن بأية طريقة راحت تعتمل فيك تلك الرسالة المطولة إلى ابنتك؟ لست أتذكر، لقد كانت أوقاتا عصيبة، شديدة القتامة وشديدة الإيلام، وقد رحت أمحو آثارها شيئا فشيئا. ما أتذكره هو أنني كنت أنهض كل يوم من السرير بمشقة، فأرتدي ملابسي وأنصرف الى الكتابة. كنت أشعل شمعة قبالة صورة باولا، وأغرق في البكاء. فكان زوجي يأتيني بفنجان قهوة، يقبلني ويتركني وحدي، لأنه يعرف أن الكتابة هي الشيء الوحيد الذي يمكن له مساعدتي. لم أشأ التصديق بأن ابنتي قد ضاعت مني إلا قبل موتها بثلاثة أو أربعة أيام، عندما بدا واضحا أنها تودعنا، وأن روحها جاهزة للانطلاق. هل ترين أن الواقع يفوق الخيال أحيانا؟ أجل، بالطبع، عندما كتبت «الخطة اللانهائية» خرج مقال نقدي في صحيفة في سان فرانسيسكو يقول انه «من المستحيل حدوث كل هذه الأشياء في حياة شخص واحد». ولكنني كنت قد أغفلت أكثر من نصف الوقائع، لأن أحدا لن يصدقني، ونحن نعرف أن الشرط الأول للروائي هو أن يكون مقنعا. فالكتب العظيمة، والشخصيات التي لا ننساها مطلقا هي تلك التي نشعر بالتطابق معها، لأننا نعرف أنها تظهر لنا حقيقة انسانية عميقة. هل متعة القص هي المسوغ لرواياتك أم أنها نتيجة لها وحسب؟ القص هو نوع من الإدمان، وهو موهبة، وقد امتلكت هذه الموهبة على الدوام، منذ أن تعلمت القراءة. صحيح أنني اكتشفت الكتابة بعد أن بلغت الأربعين، ولكنني امتلكت متعة القص منذ أن وعيت على الدنيا. ولهذا أكتب : من أجل المتعة الحسية المحضة. وهو السبب نفسه الذي يجعلني أمارس الحب. هل أنت نادمة لأنك خرجت يوما إلى المنفى؟ لا، فلو أنني بقيت في تشيلي لمت اختناقا في أجواء القمع الدكتاتورية. والآن، بعد مرور ثلاثين سنة، مازلت أشعر بالغضب والرعب من الفظائع، المرتكبة ولكنني لا أحمل أحقادا ولا أكنّ كراهية من أي نوع بفضل أمر الاعتقال الذي أصدره القاضي الاسباني غارثو، واحتجاز بينوشيه في لندن سنة 1998، كشف النقاب عن الحقيقة في تشيلي. ولم يعد بإمكان أحد إنكار أو تجاهل ما حدث. وتقبل الحقيقة هو بداية الطريق الى المصالحة. وربما ما كنت سأصير كاتبة روائية أبدا لو لم أجد نفسي مضطرة الى البدء من جديد، بعيدا عن وطني. كتب تودوروف أن من رأوا الشر عن قرب يعرفونه، ومن غير المجدي التعلل بالأمل في أن الشر يتجسد في كائنات مختلفة بالكامل عنا؟ هذا هو أرهب ما في التعذيب والجرائم المماثلة : فأي واحد منا يمكن أن يقدم على اقترافها. قد لا يستطيع معظمنا تصورها، لأن الحظ حالفنا ولم نخضع لظروف يسود فيها التعذيب أو ترتكب الفظائع. ولكن إذا ما توفرت تلك الظروف، فكم هم الذين سيتصرفون كشياطين بيننا؟