إعلان وزير الداخلية السيد علي العريض، وهو رجل هادئ ورصين وصاحب مصداقية، عن وجود تنظيم يريد إقامة "إمارة إسلامية" في تونس بالقوة، وعبر جمع السلاح والتدرب عليه، يفتح العيون على ضرورة الاهتمام بالمساجد. ويستدعي قيام مشايخ تونس الأجلاء بدورهم في حماية النشء من التطرف والتنطع وسوء الفهم، من أجل العودة إلى صفاء التدين وانسجام الساحة الإسلامية ما قبل حكم الطاغية الهارب. كانت في تونس قبل العام 1990 حركة إسلامية رائدة أصيلة في دينها، منفتحة على عصرها، تسعى لاستيعاب العصر في إطار الإسلام. وقد قدمت هذه الحركة تضحيات جسام من أجل إعادة إحياء الدين والعيش في قلب العصر، دون التخلي عن الإسلام في شيء، عقيدة أو شريعة أو عبادة. وقد استهدفت هذه الحركة من قبل النظام البورقيبي بالضرب والاستئصال وقدمت في عهد بورقيبة العديد من الشهداء وآلاف السجناء. ثم جاء الطاغية الفاسد ابن علي. وأقام حكمه على قاعدة استئصال النهضة والقضاء عليها. وزادت التضحيات ألوانا وأشكالا. ودفعت الحركة في عهده العشرات من الشهداء وعشرات آلاف المعتقلين وآلاف المنفيين. وقامت استراتيجية وزارة الداخلية في العهد الظالم الفاسد على تمزيق الصف الإسلامي، وتحويله إلى ملل ونحل. ومن أجل تحقيق ذلك شجعت السلطة على إحياء تقاليد التصوف الطرقي عبر نشر الحضرة وغيرها. وساعدت في المقابل على نشر التشيع، وحتى على تشجيع جلب الثقافة السلفية للبلاد، من أجل ضرب وحدة الصف الإسلامي. إذ نشطت السفارة الإيرانية بقوة في نشر التشيع عبر نشر الكتب والأشرطة والأقراص المدمجة، وعبر استقطاب العديد من الشباب للمذهب الاثنى عشري. وكان لافتا للنظر احتفال قناة المنار كل عام بالسابع من نوفمبر، واستضافة العديد من الوجوه التابعة للنظام الهالك للدعاية للوضع الفاسد. وكان ذلك سرا محيرا، كيف يجتمع حزب الله المقاوم لإسرائيل مع نظام فاسد عميل للأمريكان، وكيف تلتقي قناة يقودها حسن نصر الله مع نظام يقوده رئيس مجرم فاسد حكم تونس بدعم أمريكا وتأييدها. وقد ظهر لاحقا أن المنار كانت تتلقى سنويا نحو 100 ألف دولار من النظام التونسي. كما كان حزب الله يهتم بسياسة غض الطرف (على الأقل) التي كان يلقاها شيعة تونس. في المقابل كانت معارض الكتاب تشهد كل عام سيلا من الكتب السلفية القادمة من السعودية. ولعب تصحر الحياة الدينية في تونس دورا كبيرا في تشجيع التونسيين على البحث عن الفتوى الدينية فلم يجدوها إلا في الفضائيات السلفية. وفي مقابل الانفتاح على الكتب السعودية كانت باقي الكتب تمنع منعا مغلظا. وخاصة كتب التيار الإخواني ومن أبرز وجوهه الشيخ يوسف القرضاوي. وكان النظام يمنع كتبا لأي كاتب إذا تحدثت عن إمكانية التعايش بين الإسلام والديمقراطية، وهي المقولة التي تميزت بها حركة النهضة. وكانت وزارة الداخلية تعرف بعض الوجوه السلفية وتسمح لها بالنشاط. ويقول بعض العارفين إنه كان يكفي ذكر أن فلانا من التيار السلفي الفلاني حتى يسمح له بالنشاط.. مقابل القمع التام للتيار الإسلامي القريب من النهضة أو الدائر في فلكها. ولم يسلم حتى جماعة الدعوة والتبليغ، لقناعة راسخة لدى أجهزة الأمن أن هذه الحركة يمكن أن يتحول عناصرها إلى مناضلين إسلاميين. ولقائل أن يقول إن النظام لم يكن يشجع وجود التيار السلفي حبا فيه، ولكن لتحقيق غايتين اثنتين: ضرب وحدة التيار الإسلامي، ونشر ثقافة طاعة ولي الأمر، التي تناسب الأنظمة المستبدة. اليوم تونس تجني نتائج سياسة الملل والنحل التي مارسها ابن علي ووزارته للداخلية. ويمكن أن يزيد هذا الكوكتل المخيف اشتعالا استفزازات العلمانيين المتطرفين، التي تشعر البسطاء من الناس وكأن هولاكو علماني يريد أن يجتاح تونس العروبة والإسلام، ما يجعل العديد من الشباب الغر المتحمس يذهب في خلده أن الجهاد بات اليوم عليه واجبا، وأن مواجهة غلاة العلمانية ولو بالسلاح ضرورة دينية. إن هذا الخطر لن يزول إلا بنزول العلماء والمشايخ الربانيين الصادقين، العارفين بعصرهم وزمانهم، الراسخة أقدامهم في الدين، وفي فهم البيئة التونسية وخصوصياتها.. نزولهم إلى المساجد ليضعوا الأمور في نصابها. فالأمر جلل، والخطر شديد، والخطب عظيم، ويجب وضع نهاية له قبل أن يستفحل. ويجب أن يكون هذا العمل متبصرا هادئا عاقلا، فليس المستهدف السلفيون ولا غيرهم، وإنما الغرض إشاعة ثقافة إسلامية أصيلة، وتدين عميق ومثمر، ينفتح على العصر، ويتجه للناس، يحثهم على الخير والبر والمعروف، وييسر لهم سبل الهداية والأوبة والتوبة إلى الله سبحانه وتعالى، ويساعدهم عليها، ولا يكتفي بتصنيف الناس وتكفيرهم أو تفسيقهم وتبديعهم. المطلوب محاربة ثقافة الغلو والتطرف والجنوح للعنف المغلف بالدين. والمهمة تستحق كل جهد. فأمان تونس وسلامة التونسيين وتأصيلهم في دينهم، ومساعدتهم على التفوق ورفع راية بلادنا وديننا في العالم بأسره، لا يكون إلا بالتدين الصحيح والتقوى الحقيقية وبالعلم وبالعمل. Noureddine Aouididi